الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله المين وعلى آله وصحبه أجمعين ..وبعد :
فهذا مجمل كتاب دلالة الكتاب والسنة على الأحكام من حيث البيان والإجمال أو الظهور والضفاء ، للدكتور عبدالله عزام رحمه الله تعالى – وقد نال بها درجة الدكتوراة من جامعة الأزهر في أصول الفقه عام 1392هـ تحت إشراف د. عبدالغني عبدالخالق .
وقد بين المؤلف في رسالته " دلالة الكتاب والسنة على الأحكام من حيث البيان والإجمال " وبيان أثرها على اختلاف الفقهاء ، وجاءت الرسالة في باب تمهيدي احتوى على ثلاثة فصول ، الفصل الأول مدخل إلى الأدلة ، الثاني في الدلالة والاستدلال والأدلة ، الثالث في الكتاب والسنة ثم الباب الأول وجاء في فصلين الأول في الواضح عند الحنفية والثاني الواضح عند المتكلمين أما الباب الثالث ففيه فصلان الأول المبهم عند الحنفية والثاني المبهم عند المتكلمين ثم الباب الثالث وفيه أربعة فصول الأول في تعريف التأويل ومتعلقاته ، والثاني في موقف المدرسة الظاهرية من التأويل والثالث في قواعد ضرورية للتأويل والرابع في أنواع التأويل ، ثم ختم المؤلف البحث عن البيان ومعناه وحكمة ، وقوته وتأخيره وأنواعه ومراتبه ، وقد ذيل البحث بتراجم الأعلام وقائمة بأسماء المراجع والمصادر ثم الفهرس .
الباب التمهيدي : قسم هذا الباب إلى قسمين تحدث في القسم الأول عن لمحة تاريخية عن حياة البشرية من نزول آدم عليه السلام وبين أن الله أرسل الرسل لعبادته وأن دين الرسل هو الإسلام مع اختلاف الشرائع ، وخاتمة الشرائع وأكملها رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان لابد من معرفة المنهج في الأحكام ، ثم تكلم عن طرق الاستنباط في هذه الشريعة وأن الله صاحب الحق في التشريع والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغاً عنه بالسنة ، ثم بين أن الصحابة قد ساروا على ذلك فإن لم يجدوا لها حكماً اخذوا بالإجماع أو أنهم اجتهدوا وقاسوا على أشباه المسألة ونظائرها ، ثم تنوعت وسائل استنباط الأحكام حتى وضع الشافعي حجر الأساس لعلم الأصول ، ثم يرى المؤلف أن موضوع أصول الفقه هو الأدلة أما في الفصل الثالث فبين العلاقة بين علم الأصول وهذه الرسالة فبين أن المقصود لدلالة هي الألفاظ أما الكتاب والسنة فهو الدليلان الأساسيان للأصول ، أما الأحكام فهي ثمرة هذا العلم ، أما البيان والإجمال فهي إحدى الوجوه التي يقسم اللفظ باعتبارها مما لا يخلو منه كتاب أصول .
أما في الفصل الثاني : فقد تكلم فيه المؤلف عن الأدلة وقسمها إلى متفق عليها ومختلف فيها ( الاستدلال ) وقد أطال المؤلف الكلام عن الأدلة لمختلف فيها وتعريفها فآثرنا عدم ذكرها لعدم تعلقها بالبحث حيث أنه يتعلق بالكتابة والسنة ، فتكلم في المبحث الأول عن القرآن فعرفه بأنه الكلام المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بالإيجاز بأقصر سورة منه المكتوب في المصاحف المنقول إلينا تواتراً المتعبد بتلاوته ، ثم تكلم عن حجية القراءات السبع تواترها ، وعدم حجية القراءة الشاذة ، ويرى أن وجود بعض الكلمات الأعجمية في القرآن هو من باب اشتراك تلك اللغات مع العربية في هذه الكلمات ، ثم بين حرمة ترجمة القرآن الكريم إلى لغات أخر ، وتحدث عن إعجاز القرآن الكريم من جميع النواحي ، ثم تكلم في القسم الثاني عن السنة : وحجيتها ، وبين مرتبة السنة من القرآن فهو يرى أن الكتاب يأتي في المرتبة الأولى من ناحية إعجازه ، أما من ناحية مصدريته فهو والسنة سواء ثم قسّم الأحكام التي في السنة إلى ثلاثة أنواع ما كان مقراً لما في القرآن وما جاء مبينا له وما كان مستقلاً ولا شك أن أغلب هذه المباحث هي تمهيداً لصلب البحث .
الباب الأول : الواضح :
تكلم المؤلف رحمه الله في هذا الفصل عن الواضح عند الحنفية والمتكلمين بأنواعه الظاهر والنص المفسر ويقصد المؤلف من هذا وجوه نظم القرآن من ناحية الوضوح والخفاء ، الفصل الأول : الواضح عند الحنفية حيث بدأ المؤلف بالظاهر وعرفه الحنفية بأن الكلام الذي تتضح دلالته بمجرد سماع صيغته مع احتمال التخصيص ، وقد مثل لذلك بقوله تعالى " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " فلفظ " انكحوا " ظاهر في حل النكاح ، وضرب لذلك أربع أمثلة مع ذكر كلام العلماء في ذلك [160-174[ فمن أمثلة الظاهر في السنة قوله صلى الله عليه وسلم ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) فهذا الحديث ظاهر في نفي الجواز وهو عام في كل صلاة ، ثم ذكر المؤلف اختلاف العلماء في هذا الحديث ومعارضته لآية الإنصات وخلص أن هذا الحديث ظاهر من جهة البيان وليس بمجمل ثم ذكر معارضة الحنفية هذا الحديث لما هو أوضح منه ، وأنهم يحكمون الحديث على الفضيلة ، ثم رجح قول الحنابلة بوجوب الإنصات مع الإمام وقراءة الفاتحة في سكتات الإمام ، وذكر عدة أمثلة من السنة للظاهر ، أما حكم الظاهر فقد اتفق الأصوليون والفقهاء وأهل الحديث على وجوب العمل بالظاهر مع احتمال التخصيص والتأويل والنسخ ، ثم ذكر المؤلف اختلاف الحنفية في قطعية الظاهر وظنيتة وأدلة كل فريق .
أما نقل الحديث الظاهر بالمعنى فقد اختلف العلماء في ذلك بين المانع والمجيز بشرط حسن الضبط واشترط المؤلف العلم بوجوه اللغة وبفقه الشريعة ، أما السوق في الظاهر فالمقصود منه أن يكون المعنى الذي يظهر للسامع هو المقصود الأصلي من الكلام ، وذكر المؤلف اختلاف الحنفية في اشتراط عدم السوق بالنسبة للظاهر إلى مذهبين :
أنه ليس بشرط وهو مذهب القدماء ، واشتراط عدم السوق وهو مذهب المتأخرين وهذا ما رجحه المؤلف وذلك للتفريق بين الظاهر والنص والمفسر ، ثم تكلم عن النص عند الحنفية حيث عرفوه بأنه اللفظ الذي اتضح معناه أكثر من الظاهر بسبب قرينة دلت على أن معناه هو المقصود من سوق الكلام مع احتمال التأويل والتخصيص والنسخ ، حيث اتفقت الحنفية على أن النص أوضح من الظاهر ، وذكر اختلافهم حول وسيلة الإيضاح حيث ذهب بعض الحنفية إلى أن السوق وسيلة الإيضاح وذهب بعضهم على أنها قرينة لفظية ، ويرجح المؤلف على أنها قرينة لفظية بعد نقله كلام أئمتهم في الخلاف ، ويمثل لذلك بقوله تعالى " وأحل الله البيع وحرم الربا " حيث ذكر أن القرينة هو إثبات التفرقة بين البيع والربا ، أما حكم النص فذكر وجوب العمل به مع احتمال التخصيص والنسخ لكنه أبعد من الظاهر في ذلك ، وذلك من جهة العمل به أما حكمه من جهة العموم والخصوص والسبب فقد ذكر إجماع الأصوليين على احتمال النص للتخصيص والتأويل والنسخ ، واحتمال التخصيص فيه إذا كان عاماً أما التأويل فيتحقق في العام والخاص وقد عارض بعض الحنفية لجمهورهم في أن النص خاص دائماً وأورد المؤلف كلام الأئمة الحنفية في رد هذا الرأي وتأكيد قاعدة " العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب " وضربه عدة أمثلة لذلك ثم أورد تطبيقاً عملياً لتعارض النص مع الظاهر عند الحنفية منها قوله تعالى " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " وقوله " وحمله وفصاله ثلاثون شهراً " فذكر عن أبي يوسف ومحمد أن الآية الأولى نص والثانية ظاهر في مدة الرضاع فيقدم النص على الظاهر .
ثانياً : المفسر عند الحنفية : هو ما ازداد وضوحاً على النص ولا يحتمل التخصيص ولا التأويل ولكنه يحتمل النسخ ، حيث أن البيان في حالة التفسير عند الحنفية أما أن يكون بيان التفسير بحيث لا نفسر المجمل إلا بدليل قطعي الثبوت والدلالة حيث أنه لا يقبل خبر الواحد عندهم في ذلك ، أو يكون بسياق ببيان تقرير بحيث يكون المعنى في نفس المتكلم ، ويقسم بعضهم المفسر إلى متصل وهو ما كان تفسيره في نفس النص أو منفصل ما كان بيانه خارج النص ، ومن امثلة المفسر الظاهر قوله تعالى " فسجد الملائكة كلهم أجمعون " حيث أنه أشد باب التخصيص بذكره " كلهم " وأشد باب التأويل بقوله " أجمعون " فاصبح مفسراً وقد رد المؤلف وأطال الكلام حول الاعتراضات في جعل الآية مفسرا ( 234-244 ) .ويرى وجوب العمل بالمفسر ويترجح على الظاهر والنص .
أما المحكم : فيعرف عندهم بأنه ما ازداد قوة عن المفسر بحيث لا يحتمل النسخ . ويعرفه الجصاص والكرخي بأنه مالا يحتمل إلا وجهاً واحداً ، وجعلوا المتشابه ما يحتمل أكثر من وجه فالإحكام مقابل المتشابه ، وقد أورد المؤلف أن الإحكام في القرآن على ثلاثة معان : منها أنه مقابل للتشابه الذي يلقيه الشيطان ومنها الإحكام إبقاء التنزيل في مقابلة النسخ فالمحكم هو الناسخ والمنسوخ هو المتشابه كما ورد عن السلف ، ومنها تميز الحقيقة المقصوده عن غيرها .
والذي يراه المؤلف بعد ذكر اختلاف العلماء في قوله تعالى " منه آيات محكمات هن أم الكتاب " يرى ما ذهب إليه لحنفية بأن المقصود من الحكم هو الممتنع من احتمال التأويل من أن يرد عليه النسخ أو التبديل ، أما حكم المحكم فوجوب العمل به وهو أعلى مراتب الواضح وسببه أنه غير قابل للنسخ إما أن يكون أصلاً من أصول العقيدة ، أو يقترن بقرينه تدل على تأييده مثل قوله تعالى " ولا أن تنكحوا أزواجه أبداً " وقد ذكر المؤلف التداخل والتباين في أقسام النص فبدأ بأقلها وضوحا وهو الظاهر ثم النص ثم المفسر ثم المحكم ، والقواعد في تفاوتها كالتالي :
1- أنها متفاوته في الوضوح .
2- يظهر أثر التفاوت عند التعارض وذلك بترجيح الأقوى .
3- أن التعارض صورة وليس حقيقي بحيث أن تعارض بين الأدنى والأعلى .
4- يسقط الأدنى بالأعلى إذا تساوى رتبه مثل أن يستويا في تواتر الحديث ثم ذكر المؤلف اختلاف الأصولين في ذلك وقد ذكر عدة أمثلة لهذا التعارض ، فمن أمثلة تعارض النص مع الظاهر ما ذكرناه سابقاً من تعارض حديثي قراءة الفاتحة ، ومن تعارض النص مع المفسر عند الحنفية حديث العرنيين وحديث " استتروا من البول " فهذا الحديث مفسر على حرمة البول وحديث العرنيين ظاهر على حله لذلك حرموا شربه والتداوي به مع العلم أن بعضهم جعل هذا من أمثلة تعارض النص مع الظاهر ومن أمثلة تعارض المحكم مع المفسر عند الحنفية قوله تعالى " وأشهدوا ذوي عدل منكم " ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً " فالأولى مفسره بجواز قبول شهادة قاذف المحصنات بعد التوبة ،والثانية محكمة بقوله " أبدا " لذلك لا يجزيون قبول شهادته أبداً ، ومن أمثلة تعارض النص مع المحكم قوله صلى الله عليه وسلم ( من استنجى منكم فليستنج بثلاث أحجار ) وقوله( من استجمر فليوتر من فعل ذلك فحسن ومن لا فلا حرج ) فالأول نص في اشتراط الثلاث، والثاني محكم فيرجحون التخيير .
الواضح عند المتكلمين فقد ذكر المؤلف أن المتكلمين يقسمون الواضح إلى ظاهر ونص ، أما أرائهم في النص والظاهر ، فقد افترقوا إلى أربعة أقوال ، الأول يقول بتسوية النص والظاهر أي أن النص هو الآية والحديث ، ويرى المؤلف أن ليس هو المقصود بالنص الاصطلاحي ، والثاني أن النص هو الحقيقة والظاهر مجاز والقول الثالث أن النص لايحتمل التأويل والظاهر ما احتمله وهو قول جمهور المتكلمين وما رجحه المؤلف ، أما الرابع فإن ينكر وجود النص ، وأنكر المؤلف هذا القول ، وعرف الظاهر بأنه (اللفظ الذي يفيد معنى راجحاً مع احتمال غيره احتمالاً ضعيفاً ) ويقع الظهور في جميع أنواع الكلام الاسم والفعل والحرف ،ويرى المؤلف انه لا يستعمل كدليل على أمور لاعتقاد لأنه يحتمل فيه التأويل ( انظر الملاحظات) أما الأمور الفرعية فيمكن الاستدلال بالظواهر ويجب اتباعه والعمل به ، أما أسباب الظهور فقد حصرها المؤلف في ثمانية أسباب : أولها الحقيقة والمجاز فذكر أن الحقيقة التي هي الظاهر بأنواعها اللغوية والشرعية والعرفية تقدم على ما يقابلها من المجاز ، والسبب الثاني الانفراد في الوضع ويقابله الاشتراك حيث أن الانفراد أوضح من الاشتراك الذي يحتاج إلى قرآئن لترجيحه ،فيرى المؤلف أن كل كلمة تختص بمعناها أي أنها متباينة لا مترادفة ، مثل كلمة صعيد فكل ما علا وجه الأرض صعيد فيجوز التيمم عند المالكية كل ما على الأرض من تراب وغيره أما الشافعية فيرون بالترادف أي معناه التراب ، والأصل التباين ، والسبب الرابع الاستقلال يقابلة الإظهار أي أن الأصل استقلال اللفظ دون اللجوء إلى تقدير المحذوف حتى يتعذر فهم المعنى ، أما السبب الخامس فهو التأسيس وفي مقابلته التأكيد حيث أن الكلام يراد به التأسيس إن أمكن وهو أرجح من التأكيد مثاله قوله تعالى " ومتعوهن على الموسع قدره والمقتر قدره .. " فيرى بعض الفقهاء عدم وجوب المتعة وحملوا الكلام على التأسيس وذلك لأنه خص المحسنين بذلك فدل على الندب ، وبعضهم رأى الوجوب حيث أنه أكد بقوله " حقاً " ، أما السبب السادس فهو الترتيب وفي مقابله التقديم والتأخير، فيقدم الترتيب على التقديم والتأخير ومثاله قوله تعالى ( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة .. الآية ) ومحل النزاع – ثم يعودون – فجمهور العلماء على ترتيبها أي من ظاهر ثم عزم على الوطئ فإنه يكفر على ترتيب الآية ، أما المخالفون فيرون تقديم وتأخير أي أنه بمجرد الظهار فإنه يكفر ، أما السبب السابع الإطلاق ومقابله التقييد : أي يعمل المطلق حتى يقوم دليل بتقيده ، أما السبب الثامن : العموم ومقابلة الخصوص فالأصل العموم حتى يرد الخصوص بدليل ، ثم أورد المؤلف مسألة مهمة عند الظاهر وهو قوله تعالى ( ولا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم .. ) وهي مسألة التحاكم إلى غير شريعة الله حيث أصل هذه الآية ظاهرها من الناحية الأصولية ورد على القائلين بأن المقصود بالنفي كمال الإيمان ، وردعليهم من الناحية الأصولية واللغوية .
ثم أورد المؤلف أن العام ظاهر في جميع أفراد وقطعي في أقل الجميع ، ثم يقارن بين الواضح عند المتكلمين والحنفية فيخلص على أن الظاهر عند المتكلمين يرادف الظاهر عند الحنفية والنص عند المتكلمين يرادف المحكم والمفسر عند الحنفية ، وبعد ذكره آراء الأصوليين في أيهما أفضل تقسيماً يرى المؤلف أن تقسيم الحنفية أفضل لأنه أشمل لأحوال الواضح وأيسر لاستنباط الأحكام وأدق في تخريج الفروع على الأصول بالإضافة إلى اختلاف المتكلمين في تعريف الظاهر والنص .
الباب الثاني : المبهم عند الحنفية والمتكلمين :
أولاً : فتعريفه هو (ما يقابل الواضح ) ويقسمونه إلى أربعة أقسام الخفي ويقابله الظاهر ،والمشكل ويقابله النص ، والمجمل ويقابله المفسر ،والمتشابه ويقابله المحكم ، وقد اتفق الحنفية على أنها متباينة لا تتداخل فيما بينها ،كل منها مستقل .
أولاً : الخفي : وهو اللفظ الذي لم يدل على بعض أفراده دلالة واضحة بسبب وجود عارض خارج الصيغة ويزول هذا العارض بالبحث والطلب .
فهو من عوارض الألفاظ ودلالته غير واضحة مثل السرقة فتعريفها في الشرع تناول الشيء في موضع مخصوص وقدر مخصوص ، فهل يتعدى هذا الحكم إلى حالات تشبه السرقة مثل النشال والنباش ، وبعد عرضه لأقوال العلماء يرى المؤلف قطع يدهما وهو رأي الجمهور خلافاً للحنفية الذين رأو عدم قطع يد النباش ، وقد ذكر المؤلف عدة أمثلة عل الخفي مثل ميراث القاتل واللواط .
وأما عن حكم الخفي فالذي يحمل دلالة النص وزيادة فقد اتفقوا على الأخذ به مثل النشال فإنه يحمل معنى السرقة وزيادة ، أما الناقص عن المعنى مثل النباش فقد اختلفوا فيه ما بين آخذ بدلالة النص لأنه أولى بالحكم أو بعين النص وبعد ذكره لاختلافهم وأدلتهم يرى المؤلف رأي الجمهور وهو الأخذ بدلالة النص لأنه أولى بالحكم . ثانياً : المشكل : وهو ما ازداد خفاؤه على الخفي وكان خفاؤه في ضيغته بحيث لا ينال المراد منه إلا بالتأمل بعد الطلب ، وهناك أسباب للإشكال منها : الاشتراك في اللفظ ويكون تعدد المعنى لتعدد الوضع، مثل كلمة عين فإن تأتي بمعنى الجاسوس أو العين الباصرة ، أو تعدد المعنى بتعدد الاستعمال بحيث يكون للكلمة معنى حقيقي مجازي ، والسبب الثاني الإشكال بسبب مقابلة النصوص مع بعضها، أ ما السبب الثالث فهو الغموض في المعنى ، والرابع الاستعاره البديعية مثل قوله تعالى ( فأذاقها الله لباس الجوع والخوف ) فاللباس لا يذاق وشمل الظاهر والخوف شمل الباطن فجاء العذاب شاملاً للظاهر والباطن . والسبب الخامس هو دقة المعنى .
وقد أوردالمؤلف رحمه الله أربعة مسائل اختلف فيها العلماء وكان سببها لفظ مشكل له أكثر من معنى ، ومن ذلك ذكر الاختلاف في قوله تعالى ( فأتو حرثكم أنى شئتم ) فقد ذكر المؤلف أن ( أنى ) تأتي بمعنى ( كيف ) و ( أين ) وعلى هذا ذكر تجويز قوم لاتيان المرأة في دبرها ذلك لتفسيرهم أنى ( بأين )، ثم بعد ذكر أدلة كل فريق رأى المؤلف رأي جمهور أهل العلم وهو تحريم ذلك وأن معنى ( أنى ) أي ( كيف ) بدليل قوله تعالى ( فأتوهن من حيث أمركم الله )، أما حكم المشكل فخلص أنه يتأمل فيه إلى أن يتبين المراد فإذا تبين يعمل به ، ولا يجوز إيراد الحديث المشترك والمشكل بالمعنى لأنه لا يعرف إلا بالتأويل ويخشى أن يغير الناقل المعنى بألفاظ من عنده . ثالثاً : المجمل : ( فهو ما استند لسبب في صيغته بحيث لا يفهم مراده إلا ببيان يرجى )، وقد يختلط المجمل بالمشكل والمشترك العام وذلك لتقارب الألفاظ بينهم . فالفرق بين المشكل والمجمل المشكل هو أنه يدرك معناه بمجرد التأمل ووجود قرائن تدل على ذلك أما المجمل فلا يمكن إزالة الخفاء إلا بوجود من المتكلم نفسه يزيل الخفاء فهو خال من القرائن .
أما الفرق بين المشترك والمجمل : فالمشترك يخالف المجمل من ناحية الإدراك اللغوي ،لأن المشترك له أكثر من معنى بتعدد وضع الكلمة أما المجمل فلا مدخل للإدراك اللغوي لأن ثبوته شرعاً ،أي انتقل من معنى لغوي إلى معنى شرعي فالشرع مثل الصلاة لغة الدعاء ، لكن انتقل معناها إلى الصلاة المعروفة أي لا سبيل لمعرفته إلا ببيان شرعي ، أما الفرق بين العام والمجمل فالعام موضوع وضعاً واحداً يدل بحسب وضعه اللغوي على شموله واستغراقه لجميع الأفراد دون حصرها في كمية معينة مثل لفظ الناس ، أما المجمل فهو لفظ يحتمل عدة معان والمراد معناً واحد لا سبيل لمعرفته إلا ببيان من المتكلم نفسه ، أما الحالات التي يلتبس فيها العام بالمجمل منها : ورود لفظ عام يمكن أن يأخذ حكم ظاهره فور معنى نقله إلى الإجمال مثل قوله تعالى ( واحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم ) فالأنعام عام وكان يمكن أخذ حكم ظاهر إلا أن قوله ( إلا ما يتلى عليكم ) نقله من العموم إلى الإجمال أي أن الأنعام محلله إلا ما سأبينه لكم ، والسبب الثاني ورود الاسم العام تحت فن معلوم إلا أن مراد المخاطب البعض من تعيين في اللفظ مثل قوله تعالى ( وافعلوا الخير ) فمقصود الآية وافعلوا بعض الخير إن كان الأمر للوجوب لأنه يستحيل على كل إنسان أن يفعل جميع الخير ، أما إن كان مراد الآية بالندب فالمقصود افعلوا الخير ما شئتم ، ومن حالات الالتباس نفي المساواة مثل قوله تعالى ( أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون ) فهذا مجمل إذا أنهم يستوون من ناحية الإنسانية والتكاليف ، فعدم المساواة إجمال يحتاج إلى بيان ، رابعاً الأسماء المشتركة التي وردت مطلقاً ولها معانٍ كثيرة ، وأما أنواع المجمل فهو على ضربين إجمال في نفس اللفظ والثاني إجمال في المعني ، أما القسم الأول فله أقسام وهي ما كان اللفظ غريباً مثل ( الهلوع ) في ( إن الإنسان خلق هلوعاً ) فجاء بيانها في قوله ( إذا مسه الشر جزوعا .. الآية ) ، والثاني ما كان معناه الشرعي يختلف عن اللغوي مثل الصلاة ، والثالث الإجمال بسبب الاشتراك على ما بيناه سابقاً أما القسم الثاني الإجمال في المعنى فيكون في عدة حالات وهي الإجمال بسبب الهام المتكلم مع وضوح العبارات ولا يعرف المعنى إلا من المتكلم ، أو الإجمال الحاصل بسبب استثناء مجهول من عام ، أو كان اللفظ عام والمقصود بع البعض ( دون تعيين ) وقد ذكر المؤلف ثلاثة مسائل مجملة في القرآن بينتها السنة حيث أجمل القرآن الصلاة وبينتها السنة من حيث صفتها وشروطها وأحوالها وكذلك الزكاة والربا وقد فصل المؤلف في بيان ذلك [ 466-482] ، أما حكم المجمل فقد أورد المؤلف اختلافات العلماء في ذلك وفي أقسامه ، وخلاصته بأن المجمل لو بُِين إجماله وجب الأخذ به انظر كلام المؤلف [ 483-462]
رابعاً : المتشابه : وهو ما أيس الناس من معرفة مراده في الدنيا ، ويقسمه الأصوليين إلى قسمين : متشابه في اللفظ أي لا يفهم منه شيء مثل الحروف المقطعة ، ومتشابه المفهوم مثل الكلمات المعلومة الأصل يمكن وضعها متشابه مثل قوله تعالى ( الرحمن على العرش استوى ) فالاستواء معلومه لكن الكيفية مجهولة .
أما حكم المتشابه فقد اختلف فيه العلماء على التوقف فيه إذ لا يعلم تأويله إلا الله وهو رأي الجمهور ، والثاني هو أن الراسخين في العلم يعلمونه ومحل النزاع هو قوله تعالى ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ) فالرأي الأول يقولون بالوقف اللازم في قوله ( وما يعلم تأويله إلا الله ) وأصحاب الرأي الثاني يصلونها بـ ( الراسخون في العلم ) أي أن المتشابه لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم ، وبعد ذكر اختلاف العلماء وأدلتهم يرى المؤلف أن كلا الفريقين على حق فهناك متشابه استأثر الله بعلمه وتأويله مثل علم الغيب ، والثاني المتشابه الإضافي الذي يعرف الراسخون في العلم تفسيره .
الفصل الثاني : المبهم عند المتكلمين : يرى المتكلمون المبهم والمتشابه والمجمل شيء واحد في مترادفات عندهم ، على أن هناك ثمة خلافا بين المتكلمين في المتشابه والمجمل ،وقد ذكر المؤلف أربع اختلافات، وقد اختار رأي الجويني أن المتشابه هو المجمل لأن التقسيم الذي ذكروه لا يجني من وراءه ثمرة واقعية والمجمل عندهم هو ما دل دلالة غير واضحة واحتاج إلى بيان .
وقد أنكر داود الظاهري القول بالمجمل ، وأنكر المؤلف هذا ، وأورد أن الإجمال له فائدتان منها توطيد النفس على التطبيق والتنفيذ من حيث معرفة البيان ،و الثاني إثابة المجتهدين وتفاضل الناس في البحث عن الأحكام واستنباطها وزاد ابن حزم التسليم لله سبحانه في المجمل المتشابه الذي لا يعلم تأويله أما أنواع وأسباب الإجمال . نوعان : إجمال فعل كقيام الرسول صلى الله عليه وسلم من الركعة الثانية بدون تشهد هل كان لجواز الترك أم سهواً ، وإجمال في الكلام وهذا يقع في ثلاث حالات : في الحرف كاختلافهم في الواو في قوله تعالى ( وما يعلم تأويله إلا الله ) ، وإجمال في الفعل كقوله تعالى ( والليل إذا عسعس ) فعسعس بمعنى أدبر وأقبل ، وإجمال في الاسم : وفي هذا حالات : أن يرد مجملاً لإعطاء مراد معين دون تفصيل مثل إجمال الجزية من حيث المقدار والأنواع في القرآن ، أو الاشتراك في مفرد الكلمة لمعان عدة ، أو الاشتراك في مرجع الضمير والصفة ، ,والسبب الثالث : اللواصق من النقط والشكل مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم لفضالة بن عبيد عندما اشترى قلادة فيها ذهب وخرز ( ولا تباع حتى تفصل ) ورد برواية أخرى ( حتى تفضل ) بإعجام الضاد وهذا مما أدى إلى اختلاف الحكم ( اختلاف العلماء ص532 ) ، السبب الرابع : نقل الشارع الأسماء من اللغة إلى الشرع مثل الصلاة . خامساً وجود ما وضع في اللغة ليدل على ظاهره ، إلا إذا تعقبه شرط أو استثناء أو تخصيص مجمل . سادساً : إمكانية حمل بعض ألفاظ الشارع على ما يفيد معنين ، فإن كان معنيين فهو مبين على قول الأكثر مثال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ( من استجمر فليوتر ) فإن كان الإيتار في بالفعل فيجوز في حجر واحد وإن كان في الجمار فيستفاد معنيان الإيتار في الحجار ويترتب عليه المعنى الثاني وهو الإيتار في الفعل . ثم تكلم المؤلف عن بيان المجمل وأن السنة تبين مجمل القرآن ، ولكن هل بقي مجمل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا على نوعين : الأول : المجمل الذي يتعلق بالتكليف في العمل والأحكام فهذا قد بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكمل له الدين ،أما ما لا يفهم معناه فهذا ليس بتكليف، واتفاق أهل العلم على امتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة ، والنوع الثاني فهو ما تعبدنا الله به وأخفاه عنا فهذا مجمل إلى قيام الساعة ، أما حكم المجمل فلا يعمل به قبل البيان كما بينا سابقاً وبعد عرض المجمل عند المتكلمين ، نأتي إلى التميير بينهم وبين الحنفية فالمبهم عند المتكلمين أعم من الحنفية، والمتشابه عند المتكلمين أعم من الحنفية ،إلا أن بعض الحنفية أمثال الجصاص والكرخي يوجد في تقسيمهم تناسق وتوافق مع المتكلمين ،فهم يقسمون المتن إلى محكم ومتشابه ،وليس للمبهم أقساماً عندهم ، ثم أن المشترك قسم من أقسام المجمل عندهم، فكل مشترك مجمل ولا عكس ، ثم يخلص المؤلف إلى ترجيح تقسيم الحنفية للمبهم لأنه أسهل على الناظر وأكثر عوناً على الاستنباط وأخف على الأصولي وقد ذكر المؤلف ست مسائل اختلف في إجمالها ما بين المتكلمين والحنفية هي :
مسائل التحليل والتحريم المضافات إلى الأعيان ، وقوله تعال ( وامسحو بروؤسكم ) والكلام الذي يتوقف صرفه على الإضمار كقوله تعالى ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) ، والرابعة دخول النفي على الحقائق الشرعية كقوله صلى الله عليه وسلم ( لا صلاة إلا بطهور ) وما كان له مسمى في اللغة ومسمى في الشرع وهو قسمان ما دار بين مجاز شرعي وحقيقة لغوية مثل حديث ( الطواف بالبيت الصلاة ) وما دار بين حقيقة شرعية وحقيقة لغوية كحديث ( من أكل من لحم ... وتوضأ ) والمسألة السادسة ( قاطعوا أيديهما ) أم السابعة فهي اللفظ الوارد إذا أمكن حمله على معنى واحد أو معنيين .
وقد فصل المؤلف هذه المسائل وأطال المؤلف ذكر اختلاف العلماء وأقوالهم وبين الراجح منها ( 547-583) .
الفصل الأول : الباب الثالث التأويل .
التعريف بالتأويل ومتعلقاته : بعد ذكره للتعريفات اللغوية ذكر تعريف التأويل في اصطلاح الحنفية حين أنهم اتفقوا على جعل التأويل داخلاً في وجوه البيان ، لكنهم اختلفوا أي وجوه البيان التي تقبل التأويل ، فقالوا : إن المؤول اصطلاحاً مقابل المشترك يترجح أحد وجوهه بغالب الرأي وقد ذكر المؤلف الاعتراضات على هذا التعريف من بعض الحنفية .
أما تعريفه عند المتكلمين : فهو يقابل الظاهر ، فالأصل أن الكلام يحمل على ظاهرة مالم يقترن بقرائن تصرفه عن ظاهره ، وتعريفه عندهم ( حمل اللفظ الظاهر على غير ظاهره بدليل يجعل المرجوح راجحاً ، أما الفرق بين التفسير والتأويل فقد اختلف العلماء في ذلك ما بين مساو بينهما ومفرق بينهما وقد اختار المؤلف الرأي القائل بأن التفسير هو القطع على مراد الله بدليل قاطع أما التأويل فيكون برأي دون القطع ، وقد وضع العلماء شروطاً للمتأول والمؤول والتأويل حتى لا تدخل التأويلات الفاسده منها : أن يكون التأويل موافقاً لوضع اللغة أو عرف الاستعمال أو عادة الشرع ومنها أن يكون المتأول أهلاً للتأويل ، وأن يكون اللفظ قابلاً للتأويل بحيث يكون ظاهراً وليس نصاً وإذا كان التأويل بالقياس فيشترط أن يكون القياس جلياً ، ويشترط أن يكون الدليل الذي صرف اللفظ عن ظاهرة أقوى من ظهور اللفظ في مدلوله أصلاً ، أما تأويل الصحابي للحديث الذي يرويه فيرى الشافعية والحنابلة أنه يقدم على غيره وذلك لحضوره التنزيل وشهوده الأحوال مع الرسول صلى الله عليه وسلم، أما مراتب تأويل اللفظ العام فقد ذكر المؤلف ورجح ما رجحه ابن دقيق العيد في ذلك وهو :
أولاً: ما ظهر فيه عدم التعميم مثل حديث ( فبماسقت السماء العشر ) فالمقصود منه قدر المخرج لا بيان المخرج منه .
ثانياً : ما ظهر فيه قصداً التعميم بأن أورد مبتدأ لأعلى سبب بقصد تأسيس القواعد ، فهذا ليس للقياس دخلاً فيه ليخصص هذا العموم مثل قوله تعالى ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) .
والثالث : ما ظهر فيه قرينة زائدة تدل على التعميم ،ولا قرينه تدل على عدم التعميم ، فهذا هل معترك العلماء ، وحلبة الفقهاء في ذلك فمنهم من يمسك بظاهر النص ومنهم من يرى بالقياس ، وقد جعل الجويني مقياساً لذلك بحيث أنه يزيد حكم ظنه في قياسه للمسألة فإن ترجح أخذ به وإن لم يترجح أو تساويا أخذ بظاهر الخبر لعلو مرتبته . أما بالنسبة للتأويل بالقياس فإن الحنفية والمتكلمون على الرأي الراجح يجيزونه إلا أنهم يفترقون في مسألتين : الأولى : التخصيص بالقياس فيمنعه الحنفية ويجيزه المتكلمون والشافعية لأن الحنفية يرون أن دلالة العام قطيعة ولا يقوى على تخصيصها إلا قطعي الدلالة فلا يخصص الكتاب حديث الآحاد ، ثم أنهم يشترطون أن يكون الممخصص مقترنا مستقلاً ، ولا يجيزون في الاستقلال التخصيص بالاستثناء والصفة والشرط ، أما الشافعية فيرون أن التخصيص إيضاح وبيان ويجوز عندهم اقتران المخصص بالعام ومثال ذلك قوله تعالى ( ومن دخله كان آمناً ) فيرى الحنفية عدم جواز قتل مباح الدم في الحرم بعموم الآية ، ويرى الشافعية جواز ذلك بتخصيص الآية (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلونكم فيه .. الآية ) .
أما المسألة الثانية التي اختلفوا فيها : إثبات الحدود والكفارات بالقياس فيجيزه الشافعية دون الحنفية .
اما حكم التأويل : فخلاصة القول فيه أن التأويل إذا دخل في فروع الأحكام التكليفية العملية فهذا مما عمل به الفقهاء وكان هذا من أسباب اختلافهم في الأحكام ، أما في أصول العقائد والغيبيات وصفات الله فهذا مما لا يجوز التأويل فيه بل جر على الأمة باب البدع .
الفصل الثاني : المدرسة الظاهرية تعارض التأويل : تقوم المدرسة الظاهرية على أساس الأخذ بظواهر نصوص الكتاب والسنة ورد التأويل والقياس والتقليد ، وقد أطال المؤلف في نقل الكلام ابن حزم حول ذلك ، وقد أورد المؤلف ستة مسائل بين فيها معارضة ابن حزم للتأويل : وهي غسل اليدين عند القيام من النوم والبول في الماء الراكد ووقوع الفأر في السمن ، ومنع الاغتسال بفضل المرأة ،وولوغ الكلب ونجاسة الكفار والمشركين ، فيرى ابن حزم وجوب غسل اليدين عند الاستيقاظ من النوم في الليل أو النهار ، وأن يكون الغسل غمساً لا صباً ، وقد حمل الجمهور الحديث على الاستحباب وذلك بوجود قرينة وهي ورود أحاديث تدل على عدم غسل النبي صلى الله عليه وسلم يده ، والقرينة الثابتة التعليل فهي قوله صلى الله عليه وسلم ( لا يدري أين باتت يده ) ، وقد فصل المؤلف في ذكر المسائل الأخرى، وفي نهاية المبحث أكد المؤلف أنه رغم المسائل الغريبة التي أثارتها المدرسة الظاهرية إلا أنها جاءت رداً على التعصب المذهبي وقدمت برهاناً أن ما يجد من المسائل يمكن أن تتسعها النصوص وكانت قاعدة الأخذ بظواهر النصوص كأصل معتبر للرجوع إلى الكتاب والسنة عند كل مستنبط للأحكام وكانت مدرسة غنية بالنصوص والآثار .
الفصل الثالث : قواعد ضرورية للتأويل : يمكن حصر الاحتمالات التي تؤدي إلى حمل اللفظ على غير ظاهره إلى ستة احتمالات وهي : التخصيص والمجاز والإضمار والنقل والاشتراك والنسخ وقد يحصل تعارض بين هذه الاحتمالات ، وقد ذكر المؤلف عشر صور لذلك بعد أن أخرج النسخ وذلك لأنه يلغي اللفظ بالكلية ، وذكر قاعدة لكل صورة : 1- التعارض بين الاشتراك والنقل فالنقل أولى لأن مدلول المنقول واحد قبل النقل وبعده مثل ( الطواف في البيت صلاة ) فإن لفظ الصلاة يحمل عل النقل من اللغوي إلى الشرعي ، لذلك اشترط في الطواف الطهارة ،بخلاف الاشتراك في المعنى اللغوي فإنه يتعطل الحكم أما التعارض بين الاشتراك والمجاز فيرجح المجاز لأنه أكثر من الاشتراك ولأنه يعمل بقرينه ، وبدونها على الوضع اللغوي الحقيقي ، أما المشترك فإنه يعمل بقرينه وبدونها يصير مجملاً . وأما تعارض الإضمار مع الاشتراك فإنه يرجح الإضمار لأنه يمكن إعمال لفظه وإجراؤه على ظاهره ولا يحتاج إلى قرينه إلا إذا تعذر إجراءه على الظاهر مثل حديث ( في خمس من الإبل شاة ) فحرف (في) قد يكون للسببية وللطرفية فهو مشترك أما لو قدر ( بمقدار شاة ) تبين الحديث ، ومن القواعد (التخصيص راجح على الاشتراك) ، والقاعدة الخامسة (المجاز أولى من النقل ) مثاله قوله صلى الله عليه وسلم (من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له ) فقال الشافعية أن هناك مجاز التعبير بالأعم عن الأخص والمجاز أولى بالنقل وذلك رداً على القائلين بأن الصيام منقول من الإمساك مطلقاً إلى الشرعي ، اما القاعدة الثامنة (فإنه لو تعارض المجاز والإضمار ) فإنه ما رجحه المؤلف بأنه يؤخذ الذي له قرينة ، أما القاعدة التاسعة فالتخصيص أولى من المجاز ،و القاعدة العاشرة : فإن التخصيص يرجح على الإضمار لأن التخصيص أقواها جميعاً .
الفصل الرابع : أنواع التاويل : يرى المؤلف أن أنواع التأويل ثلاثة :
القريب ، البعيد ، والفاسد ، فالتأويل القريب لا يحتاج إلى إعمال الذهن ونستطيع إدراك مراده مثل قوله تعالى ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله .. الآية ) فظاهرها الاستعاذة بعد القراءة ، ولكن يكون معناها بعد التأويل القريب الاستعاذة قبل القراءة وهذا ما اتفق عليه العلماء ، أما التأويل الفاسد فكل تأويل بلا دليل أو دليل مرجوح أو دليل مساو تأويلاً فاسداً ، أما التأويل البعيد وقد انقسم الناس إلى الأخذ بالتأويل البعيد ما بين راد له مطلقاً وآخذ به مطلقاً والحق مع الجمهور الذين وضعوا له شروطاً وضوابط وقد ذكر المؤلف أمثلة للتأويلات البعيدة لكل مذهب فمن تأويلات الحنفية البعيدة عدم اشتراطهم لصحة النكاح الولي للمرأة ، وخصصوا الأحاديث الواردة في ذلك للمرأة الصغير أو الأمة والمكاتبة أما الجمهور فاشترطوا الولي لعموم الأحاديث الواردة التي تقف أمام ما خصصه الحنفية ، ومن الأمثلة للتأويلات البعيدة عند المالكية فهو تأويلهم لحديث( النهي عن الجلوس على القبر )بالتبول والتغوط وذلك لاعتمادهم على أفعال بعض الصحابة والتابعين ، ويرى الجمهور خلاف ذلك أخذاً بظاهر الحديث ومن التأويلات البعيدة عند الشافعية حديث ( من ملك ذا رحم عتق عليه ) فجمهور العلماء أخذ بظاهر الحديث أن كل ذي رحم يجب في حقه العتق إلا أن الشافعي خص ذلك بالأصول والفروع من الآباء والأمهات وخص ذلك دون مخصص . ومن التأويلات البعيدة عند الحنبلية حديث ( لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له ) فقد فسروا فاقدروا على التضييق فيكون معنى الحديث أي ضيقوا ذلك واعتبروا شعبان تسعة وعشرين يوماً ثم صوموا الذي يليه وهذا تأويل بعيد خالفوا فيه جمهور العلماء .
الخاتمة : البيان :
حيث خالف الباحث طريقة معظم الباحثين في جعل الخاتمة موجز للرسالة بل جعلها مادة علمية تتصل بموضوع البحث حيث عرف البيان بتعريف الجمهور وهو : ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم أو الظن بالمطلوب ، وقد اتفقوا على أن البيان يقع بالقول ، وقال الجمهور بوقوع البيان بالفعل مثل حديث ( صلو كما رأيتموني أصلي ) وأنه أقوى من البيان القولي وأنكر البيان الفعلي بعضهم وقالوا أن فيها تأخير وأنه أطول من البيان بالقول ، وقد رجح المؤلف القول الأول ، وإذا ورد مجمل ثم تلاه قول وفعل وكل منها صالح للبيان ، فإذا اتفقا في البيان عرف المتقدم من المتأخر فالمتقدم هو البيان والمتأخر مؤكد ، وإن جهل المتقدم فالبيان من أحدهما ، أما إن اختلف البيان فذهب البعض العلماء إلى تقديم القول ، والبعض إلى تقديم المتقدم ، وذهب البعض أنه إن كان القول متقدم للوجوب حمل الفعل على الندب ، وإن تقدم الفعل حمل القول على الوجوب وإن جهل المتقدم فالأولى تقدم القول ، أما من ناحية قوة البيان ، فذهب جمهور الأصوليين إلى أنه يبين ما هو أعلى منه رتبه مثل تخصيص عام الكتاب بغير الواحد ، ومن ناحية قوة الدلالة فيجب أن يكون المبين أقوى من المبين حيث يكون المخصص أقوى من دلالة العام على صورة التخصيص وهكذا ، أما من ناحية تأخير التبليغ فإن كان إلى وقت الحاجة فأجازه جمهور الفقهاء وأما تأخير البيان عن وقت الحاجة فهذا ممتنع عند الجمهور أما تأخيره إلى وقت الحاجة فجمهور الفقهاء إلى جوازه وبعضهم منعه وبعضهم أجاز بعضه وقد ذكر المؤلف أدلتهم وأقوالهم في ذلك وفصل فيها ، وأنواع البيان على ثلاثة أوجه : فإن كان باعتبار مراتبه فقد قسمه الشافعي إلى بيان تأكيد مثل قوله تعال ( وواعدنا موسى أربعين ليلة وأتممناها بعشر ) .
وأما النوع الثاني : بيان السنة التي توضح أوامر الكتاب ، وبيان السنة لمجمل الكتاب ، وما انفردت به السنة للتشريع ، وأخيراً بيان الإشارة وهو القياس المستنبط من الكتاب والسنة ، اما أنواعه باعتبار وسيلته فقد رجح المؤلف ان البيان قد يكون بالقول وبالكتابة وبالفعل وبالإشارة وبالإقرار وبالدلالة والسنن ، أما أنواعه باعتبار أوجهه فقد يكون بالتقرير أو التوكيد ، وقد يكون بيان تفسير وهو الذي يرد بعد المجمل الذي لا يمكن العمل به إلا ببيان مثل بيان صفة الصلاة وقد يكون بيان التغيير وبعضهم جعلوا الاستثناء والشرط منه ، وبعضهم جعلوه نوعاً مستقلاً ، وقد قسم المؤلف هذا النوع إلى بيان مستقل وهو الذي يقوم بنفسه ، وقسم غير مستقل وهو الذي يقوم بغيره مثل الشرط والغاية والصفة ويدل البعض ، أما النوع الرابع فهو بيان التبديل وهو التعليق بالشرط وبعضهم جعلوه نسخاً ، والنوع الخامس وهو بيان الضرورة ويقع لضرورة الكلام فهذا يقع على أربعة أوجه : الأول : ما ينزل منزلة المنصوص عليه أي هو بحكم المنطوق ، ومثل قوله تعالى ( فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث ) فبين مقدار الأم فبقي نصيب الأب فكان كالمنصوص عليه ، والثاني ما يكون بدلالة حال المتكلم مثل إقرارات الرسول صلى الله عليه وسلم وسكوته عنه ، أما الوجه الثالث : فهو تقرير السكوت بياناً لدفع الضرر مثل سكوت الشفيع عن طلب شفعته بعد علمه بالبيع لكي لا يتضرر المشتري أما الوجه الرابع فهو السكوت اختصاراً للكلام وقد ذكر المؤلف اختلاف العلماء في ذلك وأمثلتهم .
والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد ....
الموضوع الأصلي:
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]