10- الوطن والوطنية :
الوطن يكون طاغوتا ومعبودا من دون الله عندما يُعقد الولاء والبراء على أساس الانتماء إليه ولحدوده، وتقسم الحقوق والواجبات على هذا الأساس. بحيث إن من كان ينتمي للوطن ويسكن داخل حدوده فله كل الحقوق والموالاة ولو كان من أكفر الكافرين، ومن كان لا ينتمي إلى الوطن من حيث السكنة والجنسية فليس له شيء من الحقوق التي تحق لذلك المواطن الكافر ولو كان من أتقى أهل الأرض وأفضلهم..!!
و من صور ذلك، الوحدة الوطنية التي تُردد على ألسنة الطواغيت وكثير من الناس المخدوعين، والتي يُراد منها تحالف الأحزاب والفرق الوطنية جميعها، الصالح منها والطالح، وتوحيد صفها في مواجهة التحديات التي تواجه الوطن، فالوطن : محور الهتماماتهم، والغاية العظمى التي تجتمع عليها جهودهم..!!
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء : إن من لم يفرق بين اليهود والنصارى وسائر الكفرة وبين المسلمين إلا بالوطن، وجعل أحكامهم واحدة فهو كافر .
قلت : هو كافر لكونه أشرك الوطن مع الله تعالى في الولاء والبراء، وجعل الاعتبار في ذلك هو الوطن والتراب وليس العقيدة والدين، وهذا مفاده رد إبطال كثير من النصوص الشرعية التي تنص على وجوب عقد الولاء والبراء في العقيدة والدين.
و من غلو القوم في تعظيم الوطن وتأليهه من دون الله عز وجل أن جعلوه - من خلال التربية والتثقيف ووسائل الإعلام - غاية لكل عمل صير يقوم به الإنسان، فهم يجاهدون في سبيل الوطن ! ويتبرعون في سبيل الوطن ! ويموتون في سبيل الوطن ! ويعادون ويسالمون في سبيل الوطن.. وغير ذلك مما لا يجوز فعله إلا أن يكون في سبيل الله وحده، والغاية منه مرضاة الله عز وجل.
كما في صحيح البخاري، أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله قال : "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".
و هذا تعبير يفيد الحصر، أي أن القتال المحبوب شرعا هو القتال الذي تكون الغاية منه محصورة في إعلاء كلمة الله في الأرض، وما سواه فإنه قتال باطل لأن غاياته باطلة، وهو في سبيل الطاغوت، كما قال تعالى : الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ، فهما قتالان - لا ثالث لهما - إما قتال في سبيل الله وحده، وإما قتال في سبيل الطاغوت، حيث لا خلط بينهما ولا التباس، وكل قتال ليس في سبيل الله وحده فهو في سبيل الطاغوت.
فإن قيل : كيف نوفق بين ما تقدم من كون المرء لا يجوز له أن يضحي ويقاتل في سبيل الوطن، وبين كون الدفاع عن أرض الإسلام وأوطان المسلمين واجب شرعي وفرض على المسلمين القيام به؟
و كذلك كون المرء الذي يقتل دون ماله وعرضه ومظلمته فهو شهيد ؟
أقول : لا تعارض بين الأمرين ولله الحمد ، فهناك فرق بين أن يقاتل دفاعا عن شيء في سبيل الله وإعلاء لأمره وحكمه، وأن يقاتل دفاعا عن شيء في سبيل هذا الشيء، وحمية له من دون أن يرد الأمر إلى الله عز وجل، فالأول هو الذي شرعه الإسلام وأمر به، وهو من أفضل ما يتقرب به العبد إلى ربه، وأما الثاني فهو باطل وشرك لأنه يتضمن صرف الأعمال لغير الله تعالى.
و كذلك هناك فرق بين حب الأوطان والحنين إليها وهو مشروع، وبين أن يعقد الولاء والبراء على أساس الانتماء لهذه الأوطان، وأن تكون غاية تصرف في سبيلها الأعمال، وهذا لا يشرع لما يتضمن من إشراك الأوطان مع الله تعالى كما تقدم، حيث إن كثيرا من الناس يخلطون بين الأمرين!!.
فمكة كانت أحب بقاع الأرض إلى قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن الله أحب وأجل وأعز وأعلى، ولما حصل الاختيار بين الإقامة في الوطن الحبيب مسقط الرأس ومنبت الطفولة والشباب وبين الهجرة إلى الله إلى دار الإسلام حيث يثرب المدينة المنورة، فقد آثر مرضاة الله تعالى والهجرة إليه، وعلى دربه هذا سار الصحابة والتابعون، ونحن على آثارهم سائرون ومقتدون.
ـ تنبيه هام :
اعلم أن الله تعالى غاية عظمى لا تعلوه ولا تُقدم عليه غاية وهذا حقه عليك يا عبد الله، فإذا حصل الاختيار بين الله تعالى وبين الأوطان والأهل والعشيرة والمال وغير ذلك من زينة الحياة الدنيا وفتنتها، فالمختار والمُقدم هو الله سبحانه وتعالى، فكل شيء في سبيله يهون ويرخص، وفي سبيل غيره كل شيء يعز ويسمو…
فغيرنا يضحي في سبيل الطاغوت و لا يبالي، فنحن أولى في أن نضحي ونستميت في سبيل الله وحده، وبخاصة أننا نرجو من الله ما لا يرجون. وهذا من بدهيات لوازم الإيمان والتوحيد، الذي يجب على كل مسلم أن يدركه وينتبه إليه، وإلا فإن دعواه الإسلام زعم لا حقيقة له.
قال تعالى : قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين . والمراد بالفسق هنا الفسق الأكبر المخرج عن الملة، هذا ما تقتضيه مناسبة الآية، والنصوص الشرعية الأخرى ذات العلاقة بالموضوع.
11-القوم والقومية:
تقوم الفكرة القومية على مبادئ وأسس، وهي : اللغة، والتاريخ، والأرض، والعرق، فأي قوم تجمعهم هذه الخصال فلهم الولاء القومي وحق النصرة، بغض النظر عن المعتقد والدين، لأن الدين والاعتقاد لا اعتبار لهما في نظر الفكرة القومية وعند دعاتها من القوميين، فالقومية هي تكريس للعلمانية الكافرة التي تدعو إلى فصل الدين عن الدولة والحياة.
و عليه فإن القوم الذين تجمعهم اعتبارات القومية ومبادئها يكون طاغوتا ومعبودا من دون الله، لأن الولاء والبراء، والحقوق والواجبات تقسم وتعطى على أساس الانتماء إليه، فمن كان من القوم فله الولاء والنصرة وكامل الحقوق وإن كان من أطغى طغات الأرض، ومن كان من خارج القوم فليس له شيء من ذلك وإن كان من أتقى أهل الأرض !
و باختصار فإن الفكرة القومية توجب ما حرم الله، وتحرم ما أوجب الله، وهذا هو الكفر البواح الذي لا ريب فيه. وبالتالي فإن اعتقادها والانتصار لها هو اعتقاد بالطاغوت وانتصار له.
أما الإسلام فإنه يوجب الموالاة والمؤاخاة على أساس الاعتبار الإيماني الديني العقدي، وجعل التفاضل بين الناس بالتقوى والعمل الصالح، بغض النظر عن لغاتهم وأجناسهم، وديارهم.
كما قال تعالى : إنما المؤمنون إخوة ، فهم إخوة وإن اختلفت قومياتهم وجنسياتهم ولغاتهم، وهم بعضهم أولياء بعض كما قال تعالى : المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض .
و قال : أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء ، فجعل المانع من موالاتهم هو أنهم كفروا وإن كانوا ينتسبون إلى قومية واحدة، بل إلى عائلة واحدة ومن أبوين اثنين.
و قال تعالى : أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون . فهم لا يستوون وإن كانوا من أبناء قومية وجنسية واحدة. وقال تعالى : أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار .
و كذلك قوله تعالى : يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير . فجعل التفاضل في التقوى والعمل الصالح.
و في السنة، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن أهل بيتي هؤلاء يرون أنهم أولى الناس بي، وليس كذلك إن أوليائي منكم المتقون، من كانوا وحيث كانوا" . وقال صلى الله عليه وسلم : "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى". وقال صلى الله عليه وسلم : "إن الله قد أذهب عُبِّيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام هم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن" . وقال : "إذا رأيتم الرجل يتعزى بعزاء الجاهلية، فأعضوه بِهَنِ أبيه ولا تكنوا" .
و قال : "من ادعى دعوى الجاهلية فإنه جثا جهنم" ، فقال رجل : يا رسول الله : وإن صلى وصام.؟ فقال : "و إن صلى وصام، فادعوا بدعوى الله التي سماكم : المسلمين، المؤمنين، عباد الله" .
و قال : "ليس منا من دعا بدعوى الجاهلية" .
و كل دعوى غير دعوى الإسلام فهي دعوى جاهلية، وكل رابطة تقوم على غير رابطة الإيمان والعقيدة فهي رابطة جاهلية يجب نبذها وبغضها والترفع عنها…
و ما قلناه في القومية يقال في القبيلة أو العشيرة التي تعقد التناصر والولاء بين أفرادها على أساس الانتماء إلى القبيلة بغض النظر عن الدين وسلامة الاعتقاد، بحيث كل من ينتمي إلى القبيلة أو العشيرة ويقر بنظامها وعاداتها يجب أن يُعطى من الولاء والنصرة - وإن كان كافرا - ما لا يعطاه ابن قبيلة أو عشيرة أخرى وإن كان من المسلمين المؤمنين.
و بذلك تكون القبيلة - ونظامها - في نظر أبنائها إلها مطاعا من دون الله، فالذي توجبه القبيلة تطاع فيه وإن كان في الشرع محرما، والذي تنهى عنه تطاع فيه وإن كان في الشرع واجبا، وهذا عين الكفر والشرك كما قال تعالى : و إن أطعتموهم إنكم لمشركون .
و من صور الولاء المعهودة عند بعض القبائل والعشائر تماجدهم وتفاخرهم بالأجداد والآباء بغض النظر عن استقامتهم وسلامة دينهم، وهذا مما لا شك فيه أن الإسلام قد نهى عنه، وحذر منه أشد التحذير.
كما في الحديث، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "انتسب رجلان على عهد موسى، فقال أحدهما : أنا فلان بن فلان، حتى عدَّ تسعة، فمن أنت لا أم لك ؟ قال : أنا فلان بن فلان ابن الإسلام، فأوحى الله إلى موسى أن قل لهذين المنتسبين : أما أنت أيها المنتسب إلى تسعة في النار فأنت عاشرهم في النار، وأما أنت أيها المنتسب إلى اثنين في الجنة فأنت ثالثهما في الجنة" .
فمن كان منتسبا ومتفاخرا ولا بد، فلينتسب إلى الإسلام وإلى من كان منتسبا إلى الإسلام. ورحم الله القائل :
أبي الإسلام لا أب لي سواه
إن افتخروا بقيس أو تميم
المرجع : كتاب الطاغوت .
الشيخ : عبدالمنعم مصطفى حليمة .