بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين
أما بعد
فقد قال شيخ الإسلام أحمد بن تيميَّة (ت 728هـ رحمه الله تعالى)عن الأشاعرة[1] في بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية = نقض تأسيس التقديس ،جـ2ص87 : " وإن كان في كلامهم من الأدلة الصحيحة وموافقة السنة ما لا يوجد في كلام عامة الطوائف، فإنهم أقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة والجماعة والحديث، وهو يعدون من أهل السنة والجماعة عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافضة وغيرهم، بل هم أهل السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها هم المعتزلة والرافضة ونحوهم ".انتهى.
***فالأشاعرة من أهل القبلة وليسوا من أهل السنة والجماعة إلا بالقيد الذي نص عليه شيخ الإسلام أحمد بن تيميَّة رحمه الله تعالى***
والأشاعرة[2]: وهم المنسوبون إلى الإمام أبي الحسن الأشعري، ولهذا فإن المنتسبين له يقال لهم: أنتم على مذهب الأشعري في أول أمره أم في آخره أم بين ذلك؟ فإن قالوا: في أوله قيل لهم: إنه قد تراجع عن ذلك في كتابه الإبانة وإن قالوا في آخر أمره قيل لهم: هو نفسه تراجع عن مذهبه فالتزموا السنة.
وإن قالوا بين المرحلتين فيقال لهم هذا ما يقبله عاقل؛ لأن تلك المرحلة برزخية بين طرفين ولا يوجد فيها استقرار لأيهما سيصير.
هذا وقد قال بعض المنتسبين له: إن كتاب الإبانة ليس له ومنهم قالوا: هو له لكن يقصد التفويض لا الإثبات وكل منهما مكابر.
والأشاعرة قد أكثر الإمام ابن تيمية في مصنفاته راداً عليهم ومبطلاً آراءهم مع مدحه لهم ولخدمتهم ودفاعهم عن الإسلام فقال: "فإنهم أقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة والجماعة والحديث وهم يعدون من أهل السنة والجماعة عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافضة وغيرهم بل هم أهل السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها هم المعتزلة والرافضة ونحوهم"([3]) ونفى عنهم صفة الكفر بأي صورة من صوره حيث قال عنهم وغيرهم من أهل السنة والجماعة: "ليسوا كفاراً باتفاق المسلمين"([4]) وقد أكثر الإمام ابن تيمية من الرد عليهم ويتمثل ذلك في عدة أمور منها([5])
توحيد الربوبية والألوهية.
الصفات.
القضاء والقدر.
الإيمان.
1- توحيد الربوبية والألوهية: كتب الأشاعرة أول ما تبدأ لا تتعرض إلى توحيد الربوبية والألوهية والفرق بينهما ولكنها تبدأ بتفصيل بعض المقدمات العقلية والمنطقية ثم يكون الكلام عن الإلهيات من خلال الكلام على أن الله خالق وقادر والكلام على صفاته وأن ما سواه مُحْدَثٌ مخلوق وكذلك الرد على الفلاسفة والدهرية وفي أثناء ذلك التعرض لمسألة أول واجب على المكلف ومعنى التوحيد وغير ذلك من المسائل.
وقد رد الإمام ابن تيمية عليهم من خلال منهجه التربوي لتأصيل العقيدة مبيناً صحة دلالات الألفاظ المستخدمة ومدى موافقتها للشرع واللغة مؤكداً ذلك بحجج قوية ومتنوعة بل ومن أصول كلام أئمتهم مما يبيِّن تعارض تلك الأدلة والبراهين أما رده عليهم فيتكلم عن التوحيد عند الأشاعرة وأنه وإن وافق اسم التوحيد عند السلف إلا أنه يخالفه من الأصل، ويتضح ذلك من خلال عرضه لبيان معنى التوحيد عند السلف أولاً حيث يقول "التوحيد الذي ذكره الله في كتابه وأنزل به كتبه وبعث به رسله واتفق عليه المسلمون من كل ملة فهو كما قال الأئمة: شهادة أن لا إله إلا الله وهو عبادة الله وحده لا شريك له...([6]) وقال: "وذلك أن توحيد الرسل والمؤمنين هو عبادة الله وحده فمن عبد الله وَحْدَهُ لم يشرك به شيئاً فقد وحَّدَهُ ومَنْ عبد مِنْ دونه شيئاً من الأشياء فهو مشرك به ليس بموحد مخلص له الدين وإن كان مع ذلك قائلاً بهذه المقالات التي زعموا أنها التوحيد حتى لو أقر أن الله وَحْدَهُ خالق كل شيء وهو التوحيد في الأفعال"([7]) ثمَّ بيَّن وَجْه الخطأ عندهم وهو عدم فهم معنى الإله والخلط بينه وبين الربِّ فقال: "والإله بمعنى المألوه المعبود الذي يستحق العبادة ليس هو الإله بمعنى القادر على الخلق. فإذا فسَّر المفسِّر الإله بمعنى القادر على الاختراع واعتقد أن هذا أخص وصف الإله وجعل إثبات هذا التوحيد هو الغاية في التوحيد كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية وهو الذي ينقلونه عن أبي الحسن وأتباعه لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله؛ فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء وكانوا مع هذا مشركين قال تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)([8])... فليس كل من أقر أن الله رب كل شيء وخالقه يكون عابداً له دون ما سواه"([9]) وقال: "فإن الله سبحانه هو المستحق للعبادة لذاته؛ لأنه المألوه المعبود الذي تألهه القلوب وترغب إليه وتفزع إليه عند الشدائد وما سواه فهو مفتقر مقهور بالعبودية فكيف يصح أن يكون إلهاً؟!"([10]) أما التوحيد عند الأشاعرة فإنه قاصر على التركيز على الربوبية فقط وأن معنى الألوهية عندهم إنما هي الاختراع والقدرة([11]) ثم إن" التوحيد والواحد والأحد [والوحيد] عند الأشاعرة يشمل ثلاثة أمور:
أن الله واحد في ذاته لا قسيم له.
وأنه واحد في صفاته لا شبيه له.
وأنه واحد في أفعاله لا شريك له"([12]).
وقد رد عليهم شيخ الإسلام في هذا جملة وتفصيلاً وذلك من خلال ما يلي:
أما كون التوحيد يشمل تلك الأشياء الثلاثة فإنه لم يثبت لا في كتاب ولا في سنة بل هو مصادم لهما وللعقل واللغة كما أشار بقوله: "والمقصود هنا أن التوحيد الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله وهو المذكور في الكتاب والسنة وهو المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام ليس هو هذه الأمور الثلاثة التي ذكرها هؤلاء المتكلمون وإن كان فيها ما هو داخل في التوحيد الذي جاء به الرسول فهم مع زعمهم أنهم الموحدون ليس توحيدهم الذي ذكر الله ورسوله بل التوحيد الذي يدعون الاختصاص به باطل في الشرع والعقل واللغة"([13]) ورد عليهم باللغة أيضاً حيث قال: "لا يوجد في لغة العرب بل ولا غيرهم من الأمم استعمال الواحد، الأحد، الوحيد إلا فيما يسمونه جسماً ومنقسماً كقوله تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيداً..)([14]) وقوله: (أيود أحدكم أن تكون له جنة...)([15]) والعرب وغيرهم من الأمم يقولون: رجل ورجلان اثنان وثلاثة رجال وفرس واحد و... فلفظ الواحد وما يتصرف منه في لغة العرب وغيرهم من الأمم لا يطلق إلا على ما يسمونه هم جسماً منقسماً؛ لأن ما يسمونه هم جسماً منقسماً ليس هو شيئاً يعقله الناس ولا يعلمون وجوده حتى يعبروا عنه"([16])
ورد عليهم بالعقل أيضاً: "أما العقل فهذا الواحد الذي وصفوه يقول لهم فيه أكثر العقلاء وأهل الفطر السليمة: إنه أمر لا يعقل ولا له وجود في الخارج وإنما هو أمر مقدر في الذهن ليس في الخارج شيء موجود لا يكون له صفات ولا قدر ولا يتميز منه شيء عن شيء بحيث يمكن أن يُرى ولا يُدرك ولا يُحاط به وإن سماه المسِّمي جسماً وأيضاً فإن التوحيد إثبات لشئ واحد فلابد أن يكون له في نفسه حقيقة ثبوتية يختص بها ويتميز بها عما سواه حتى يصح أنه ليس كمثله شيء في تلك الأمور الثبوتية، ومجرد عدم المثل إذا لم يُفد ثبوت أمر وجودي كان صفة للعدم فنفي المثل والشريك يقتضي ما هو على حقيقة يستحق بها واحداً"([17]) فهذا رد على الجملة على معنى التوحيد وأما رده المفصل على التوحيد بأقسامه فمن ذلك:
قولهم: "إن الله واحد في ذاته لا قسيم له" فبيَّن شيخ الإسلام أنهم ما أرادوا بذلك أنه لا يتعدد ولا ينقسم ولا يتبعض ولا يتركب و... فهذا حق ومتفق عليه بين جميع المسلمين بل إنهم يقصدون من وراء ذلك أنه –سبحانه لا يُشْهَد ولا يُرى منه شيء دون شيء بين الإمام ذلك بقوله: "ليس مرادهم بأنه لا ينقسم ولا يتبعض: أنه لا ينفصل بعضه عن بعض وأنه لا يكون إلهين اثنين ونحو ذلك مما يقول نحواً منه النصارى والمشركون فإن هذا مما لا ينازعهم فيه المسلمون وهو حق لا ريب فيه وكذلك كان علماء السلف ينفون التبعيض عن الله بهذا المعنى وإنما مرادهم بذلك أنه لا يُشهد ولا يُرى منه شيء دون شيء ولا يدرك منه شيء دون شيء بحيث إنه ليس له نفس حقيقة عندهم قائمة بنفسها يمكنه هو أن يرى عباده منها شيئاً دون شيء بحيث إذا تجلى لعباده يريهم من نفسه المقدسة ما شاء فإن ذلك غير ممكن عندهم ولا يتصور عندهم أن يكون العباد محجوبين عنه بحجاب منفصل عنهم يمنع أبصارهم عن رؤيته فإن الحجاب لا يحجب إلا ما هو جسم منقسم [في اعتقادهم] ولا يتصور عندهم أن الله يكشف عن وجهه الحجاب ليراه المؤمنون ولا أن يكون على وجهه حجاب أصلاً ولا أن يكون بحيث يلقاه العبد أو يصل إليه أو يدنو منه أو يقرب إليه في الحقيقة([18]) فهذا ونحوه هو المراد عندهم بكونه لا ينقسم ويسمون ذلك نفي التجسيم إذ كل ما ثبت له ذلك كان جسماً منقسماً مركباً والبارئ منزَّه عندهم عن هذه المعاني"([19]).
وأما قولهم" إنه واحد في صفاته لا شبيه له:" فقد بيَّن شيخ الإسلام أنهم أجملوا الكلام فهم لا يصرحون بنفي الصفات كما فعلت المعتزلة ولكنهم نَفَوْا بعضها وظنوا أن هذا هو التوحيد.
وقد رد عليهم الإمام ابن تيمية بقوله: "وكذلك النوع الثاني: وهو قولهم: لا شبيه له في صفاته فإنه ليس في الأمم من أثبت قديماً مماثلاً له في ذاته سواء قال إنه يشاركه أو قال: إنه لا فعل له بل مَنْ شبه به شيئاً من مخلوقاته فإنما يشبه به في بعض الأمور وقد علم بالعقل امتناع أن يكون له مثل في المخلوقات يشاركه فيما يجب أو يجوز أو يمتنع عليه فإن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين وعلم أيضاً بالعقل أن كل موجودين قائمين بأنفسهما فلابد بينهما من قدر مشترك كاتفاقهما في مُسمَّى الوجود والقيام بالنفس والذات ونحو ذلك، فإن نفي ذلك يقتضي التعطيل المحض وأنه لابد من إثبات خصائص الربوبية"([20]).
وأما قولهم: "إنه واحد في أفعاله لا شريك له" فقد بيَّن شيخ الإسلام أنهم ما أرادوا توحيد الألوهية فخلطوا بينه و بين الربوبية؛ لذلك فقد أقر تلك المقولة ولكن ليست هي التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب فقال: "وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث وهو توحيد الأفعال وهو أن خالق العالم واحد وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع وغيرها ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب وأن هذا هو معنى قولنا: لا إله إلا الله([21]) حتى قد يجعلوا معنى الإلهية القدرة على الاختراع، ومعلوم أن المشركين من العرب الذين بعث إليهم محمد r أولاً لم يكونوا يخالفونه في هذا بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء حتى إنهم كانوا يقرون بالقدر أيضاً وهم مع هذا مشركون"([22]) والأشاعرة لم يوجبوا على المكلف أول ما يجب عليه من تعلم معنى التوحيد المتمثل في الشهادتين وإفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة إنما عندهم أول الواجبات على المكلف هو النظر ولهم في الوصول إلى ذلك سبل يتم الوصول من خلالها إلى ذلك كما يلي([23]):
طائفة قالت: إنه يجب على العبد المعرفة أولاً قبل وجوب الشهادتين.
ومنهم من قال: يجب على العبد النظر قبل المعرفة.
ومنهم من قال: يجب القصد إلى المعرفة.
ومنهم من أوجب الشك.
فمما سبق يتضح أنهم وإن قالوا بالنظر لكنهم اختلفوا في أول واجب على المكلف.
وقد بيَّن الإمام ابن تيمية أن ذلك الاختلاف إنما هو "نزاع لفظي"([24]) ثم رد ذلك قائلاً: "والنبيُّ r لم يَدْعُ أحداً من الخلق إلى النظر ابتداءً ولا إلى مجرد إثبات الصانع بل أول ما دعاهم إليه الشهادتان وبذلك أمر أصحابه كما قال في الحديث المتفق على صحته لمعاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمن: "إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، وكذلك سائر الأحاديث عن النبي r موافقة لهذا"([25])
2- الصفات([26]): وقول الأشاعرة في الصفات فيه اضطراب حيث إنهم اتفقوا على إثبات بعض الصفات العقلية وهي صفات المعاني عندهم –كما يسمونها وهي سبع صفات([27]). وهي التي يسمونها: صفات المعاني فهم "إنما يثبتون من الصفات التي يسمونها صفات المعاني سبع صفات فقط وينكرون سواها من المعاني وصفة المعنى عندهم في الاصطلاح ضابطها: هي: أنها ما دل على معنىً وجوديٍّ قائمٍ بالذات"([28]) كما اتفقوا على نفي الصفات الاختيارية وأولوها عن الله وهي التي يعبرون عنها بحلول الحوادث –بزعمهم وذلك مثل صفات الكلام والرضا والغضب والفرج والمجئ والنزول والإتيان و... واختلفوا في الصفات الخبرية كالوجه واليدين والعين واليمين والقبضة والساق والقدم والأصابع و... وكذلك اختلفوا في مسألة العلو.
والأشاعرة عدهم شيخ الإسلام من مثبتة الصفات في الجملة([29]) وقد رد ذلك المذهب بأقسامه وذلك كما يلي:
أولاً: تقسيم الصفات لأقسام يتم الاتفاق على بعض والخلاف في بعض هو من الإيمان ببعض الكتاب دون بعض بل المسلم الحق يؤمن بكل ما وصف الله به نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله r في صحيح السنة، وقد قرر هذا الإمام ابن تيمية بقوله: "ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله محمد r من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل بل يؤمن [أي: أهل السنة والجماعة] بأن الله –سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه ولا يحرفون الكلم عن مواضعه ولا يلحدون في أسماء الله وآياته ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه؛ لأنه –سبحانه لا سمي له ولا كفو له ولا ند له ولا يقاس بخلقه –سبحانه وتعالى؛ فإنه –سبحانه أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلاً وأحسن حديثاً من خلقه"([30]) وقال: "ونعلم أن ما وصف الله به من ذلك فهو حق ليس فيه لغز ولا أحاجي بل معناه يُعرف من حيث يُعرف مقصود المتكلم بكلامه لاسيما إذا كان المتكلم أعلم الخلق بما يقول وأفصح الخلق في بيان العلم وأفصح الخلق في البيان والتعريف والدلالة والإرشاد وهو سبحانه مع ذلك ليس كمثله شيء لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته ولا في أفعاله فكما نتيقن أن الله –سبحانه له ذات حقيقة وله أفعال حقيقة فكذلك له صفات حقيقة وهو ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وكل ما أوجب نقصاً أو حدوثاً فإن الله منزهٌ عنه حقيقة فإنه –سبحانه مستحقٌ للكمال الذي لا غاية فوقه ويمتنع عليه الحدوث لامتناع العدم عليه واستلزام الحدوث سابقة العدم والافتقار المُحْدَث إلى مُحْدِثٍ، ولوجوب وجوده بنفسه سبحانه وتعالى"([31]) ثم إنهم إن أثبتوا بعض الصِّفات كالتي قالوا عنها: إنها العقلية (أو صفات المعاني) فإنهم بين أمرين:
الأمر الأول: يثبتونها مع التأويل.
الأمر الثاني: يثبتونها مع تفويض معناها([32])
3- القضاء والقدر([33]): مذهب أهل السنة والجماعة وسط بين كل الفرق... وفي باب القضاء والقدر فإنهم وسط بين مَنْ يقول بأن الإنسان مجبور على أفعاله وليس له إرادة ولا قدرة كالجهمية ومنهم الحتمية وكذلك بين من يرى استقلال الإنسان في أفعاله عن خالقه وأن أرادته مستقلة عن إرادة الله وهو الذي يخلق أفعاله كالقدرية أما أهل السنة فهم وسط بين هؤلاء وهؤلاء فيثبتون القدر وأن الله خالق كل شيء ويقولون بأن للإنسان إرادة ومشيئة ولكنها خاضعة لمشيئة الله وهو وأفعاله خلقها الله أما الأشاعرة فهم بين تلك الأقوال الثلاثة حيث إنهم يميلون إلى كل قول في بعض المسائل ولذلك تميزوا بعدم الانتساب لواحدة منهم.
فهم يرون أن الله خالق أفعال العباد لكن لا لحكمة بل فعل ذلك لإرادته ومشيئته وأهل السنة يرون أن كل أفعال الله لها حكمة وقد رد عليهم الإمام ابن تيمية في مواضع منها قوله: "الله سبحانه وتعالى يفعل ما يفعله لما له في ذلك من الحكمة وأن ما يضر الناس من المعاصي والعقوبات يخلقها لما له في ذلك من الحكمة والإنسان قد يفعل ما يكرهه كشربه الدواء الكريه لما له فيه من الحكمة التي يحبها كالصحة و العافية. فشرب الدواء مكروه من وجه محبوب من وجه فالعبد يوافق ربه فيكره الذنوب ويمقتها ويبغضها لأن الله يبغضها ويمقتها ويرضى بالحكمة التي خلقها الله لأجلها فهي من جهة فعل العبد لها مكروهة مسخوطة ومن جهة خلق الرب لها محبوبة مرضية لأن الله خلقها لما له في ذلك من الحكمة"([34])
وقد ذكر الإمام ابن تيمية منهجه العقدي: منهج أهل السنة والجماعة الجامع بين جميع الآثار السمعية والعقلية فبيَّن ذلك بقوله: "وتؤمن الفرقة الناجية: أهل السنة والجماعة بالقدر خيره وشره.
والإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين:
فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون ثم كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلق.
وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلاً.
وأما الدرجة الثانية: فهي مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة: وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان ومالم يشأ لم يكن وأنه ما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله –سبحانه لا يكون في ملكه إلا ما يريد وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات.
فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه –سبحانه لا خالق غيره ولا رب سواه، ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله ونهاهم عن معصيته"([35]) وأشار مقرراً عقيدة أهل السنة والجماعة نحو أفعال العباد قائلاً: "والعباد فاعلون حقيقة والله خالق أفعالهم والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم. وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم كما قال تعالى: (لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ربُّ العالمين)([36]).
وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبيُّ مجوس هذه الأمة ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها"([37]) وقال أيضاً راداً عليهم ومؤصلاً منهاجه قائلاً: "والتحقيق ما عليه أئمة السنة وجمهور الأمة من الفرق بين الفعل والمفعول والخلق والمخلوق فأفعال العباد هي كغيرها من المحدثات مخلوقة مفعولة لله كما أن نفس العبد وسائر صفاته مخلقوفة مفعولة لله وليس ذلك نفس خلقه وفعله بل هي مخلوقة ومفعولة، وهذه الأفعال هي فعل العبد القائم به ليست قائمة بالله ولا يتصف بها فإنه لا يتصف بها فإنه لا يتصف بخلوقاته ومفعولاته، وإنما يتصف بخلقه وفعله كما يتصف بسائر ما يقوم بذاته والعبد فاعل لهذه الأفعال وهو المتصف بها وله عليها قدرة وهو فاعلها باختياره ومشيئته وذلك كله مخلوق لله فهي فعل العبد وهي مفعولة للرب"([38]).
فهذا مسلك شيخ الإسلام ابن تيمية كلامه وسط بين تلك الأقوال وهذا المنهاج التربوي في التأصيل العقدي الذي سلكه هو نفس منهاج أهل السنة والجماعة، إذ هم وسط بين جميع الفرق.
4- الإيمان: ورد الإمام ابن تيمية على الأشاعرة في مسألة الإيمان إنما هو بأمور تتعلق به من موافقتهم لقول المرجئة الذين يقولون بإنه مجرد التصديق القلبي والمعرفة و الإمام ابن تيمية يذكر مسلكهم ويبيِّن أوجه الخلل والخطأ والمخالفة ثم يبيِّن منهاج الحق الذي يسلكه في تربيته العقدية: وهو منهاج أهل السنة والجماعة وقد ألمح إلى مذهب الإمام أبي الحسن الأشعري والمنتسبين إليه قائلاً: "وليس الإيمان إلا مجرد التصديق الذي في القلب والمعرفة، وهذا أشهر قولي أبي الحسن الأشعري([39]) وعليه أصحابه([40]) فله في الإيمان قولان والقول بأن الإيمان مجرد التصديق الذي في القلب والمعرفة فقط "هو الذي اشتهر عند الأشاعرة وهو الذي نصره أئمتهم ممن جاء بعد الأشعري وهو الذي استقر عليه المذهب"([41]) ويلاحظ مما مر أن له في الإيمان اضطراباً في أصله وليس في كماله ولهذا أشار إليه الإمام ابن تيمية بقوله: "فهذا قوله في هذا الكتاب"([42]) وافق فيه أهل السنة وأصحاب الحديث بخلاف القول الذي نصره في الموجز"([43]) هذا وقد أشار الإمام ابن تيمية إلى منهاج أهل السنة والجماعة قائلاً: "ومن أصول الفرقة الناجية أن الإيمان والدين قول وعمل يزيد وينقص [يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ويتفاضل أهله فيه]: قول القلب [التصديق] واللسان وعمل القلب [من الحب والخشية والرغبة والرهبة...] واللسان والجوارح"([44]) وقد أشار الإمام ابن تيمية إلى الترابط والتلازم بين صحة الاعتقاد والجوارح وأنها تابعة لصحة الاعتقاد وأن فسادها دليل على فساد الاعتقاد بل إن وجوده كعدمه فقال: "وذلك أن الإيمان قول وعمل فمن اعتقد الوحدانية في الألوهية لله –سبحانه وتعالى والرسالة لعبده ورسوله ثم لم يُتْبِعْ هذا الاعتقاد مُوْجِبَهُ من الإجلال والإكرام الذي هو حال في القلب يظهر أثره على الجوارح بل قارنه الاستخفاف والتسفيه والازدراء بالقول أو بالفعل كان وجود ذلك الاعتقاد كعدمه وكان ذلك موجباً لفساد ذلك الاعتقاد ومزيلاً لما فيه من المنفعة والصلاح؛ الاعتقادات الإيمانية تزكي النفوس وتصلحها فمتى لم توجب زكاة النفس ولا صلاحها فما ذاك إلا لأنها لم ترسخ في القلب ولم تصر صفة ونعتاً للنفس ولا صلاحاً وإذا لم يكن علم الإيمان المفروض صفة لقلب الإنسان لازمة له لم ينفعه فإنه يكون بمنزلة حديث النفس وخواطر القلب"([45]) كما أوضح تلازم إيمان القلب بالتصديق مع عمل الجوارح بقوله: "وفي الجملة فلابد في الإيمان الذي في القلب من تصديق بالله ورسوله وحب الله ورسوله وإلا فمجرد التصديق مع البغض له ولرسوله وحب الله ورسوله وإلا فمجرد التصديق مع البغض لله ولرسوله ومعاداة الله ورسوله ليس إيماناً باتفاق المسلمين وليس مجرد التصديق والعلم يستلزم الحب إلا إذا كان القلب سليماً من المعارض كالحسد والكبر؛ لأن النفس مفطورة على حب الحق وهو الذي يلائمها ولا شيء أحب إلى القلوب السليمة من الله وهذا هو الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام... ثم الحب التام مع القدرة يستلزم حركة البدن بالقول الظاهر والعمل الظاهر"([46]) وقد رد شيخ الإسلام على شبهة أوردها الأشاعرة ومن وافقهم وهي وجود الإيمان في مواضع بدون العمل فقال: "وأما قولهم: إن الله فرق بين الإيمان والعمل في مواضع فهذا صحيح وقد بيَّنَّا أن الإيمان إذا أطلق أَدْخل الله ورسوله فيه الأعمال المأمور بها، وقد يقرن به الأعمال ... ؛ وذلك لأن أصل الإيمان هو ما في القلب والأعمال الظاهرة لازمة لذلك لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح بل متى نقصت الأعمال الظاهرة كان لنقص الإيمان الذي في القلب فصار الإيمان متناولاً للملزوم واللازم وإن كان أصله ما في القلب، وحيث عطفت عليه الأعمال فإنه أريد أنه لا يكتفي بإيمان القلب بل لابد معه من الأعمال الصالحة"([47]) كما بين أن ذلك من باب عطف العمل الصالح على الأصل وهو الإيمان كقوله: "وكذلك يذكر الإيمان أولاً؛ لأنه الأصل الذي لابد منه ثم يذكر العمل الصالح فإنه أيضاً من تمام الدين لابد منه فلا يظن الظانّ اكتفاءه بمجرد إيمان ليس معه العمل الصالح([48]) وبين أن أصل الإيمان في القلب والأعمال لازمة له وهي جزء منه فقال: "فإن أصل الإيمان هو ما في القلب ولكن هي لازمة له فمن لم يفعلها كان إيمانه منتفياً؛ لأن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم لكن صارت بعرف الشارع داخله في الإيمان إذا أطلق"([49]) ومع ما هم عليه من اعتقاد فإنهم أقرب الطوائف إلى أهل السنة والجماعة وقال عن إمامهم الأشعري: "والأشعري وأمثاله برزخ بين السلف والجهمية أخذوا من هؤلاء كلاماً صحيحاً ومن هؤلاء أصولاً عقلية ظنوها صحيحة وهي فاسدة"([50]) وبيَّن أنهم ليسوا كفاراً باتفاق المسلمين وأنهم مجتهدون مخطؤون وكل مجتهد قد أخطأ لا يدركه كفر بل يغفر له خطؤه كما بين ذلك الإمام ابن تيمية بقوله: "وأما التكفير فالصواب أن من اجتهد من أمة محمد r وقصد الحق فأخطأ لم يُكفَّر بل يُغفر له خطؤه... ومن اتبع هواه وقصر في طلب الحق وتكلم بلا علم فهو عاصٍ مذنب ثم قد يكون فاسقاً وقد يكون له حسنات ترجح على سيئاته("[51])
فهذا حكم منصف دقيق من الإمام ابن تيمية على تلك الطوائف التي خالفت أهل السنة والجماعة، وهكذا سلك الإمام ابن تيمية في منهاجه التربوي للعقيدة حيث أثبت منهجه ورد على المعترضين وأبطل استدلالاتهم من خلال استدلاله بأنواع الأدلة الممكنة ثم بإفحامه بوضعم في حيرة من تناقض أدلتهم بإلزامهم بلازم ما يقولون به وتناقض آراء أئمتهم ثم يؤكد ذلك بإبطال حجة الخصوم من أدلتهم وأقوالهم وسلك ذلك المسلك من خلال رده على الجبرية([52]) والمعتزلة والأشاعرة واتضح مما سبق أن كثرة ردود الإمام ابن تيمية إنما كانت على الأشاعرة؛ لانتشارهم قديماً وحديثاً ولوجود كثير من أفاضل العلماء والذين دخلوا في تلك الطائفة ثم عادوا لمنهج أهل السنة والجماعة أو ممن أخطؤوا متأولين مع أن شيخهم قد رجع إلى منهاج أهل السنة ولم يخالف إلا في أشياء يسيرة مغمورة في عظيم علمه وفضله.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين كلما ذكره الذاكرون أو غفل عن ذكره الغافلون.