(5) شُـــرَيْـــــــحٌ الـقَـاضِــــــيُّ
هُـــو: شُرَيْحُ بْنُ الحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الجَهْمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَامِرٍ الكِنْدِيُّ، أَبُو أُمَيَّةَ الكُوْفَيُّ. الإِمَامُ، الفَقِيْهُ، الحُجَّةُ، المُخَضرَمُ، المُعَمَّرُ، الشَّاعِرُ، القَائِفُ، قَاضِي المِصْرَيْنِ (الكُوفَةَ والبَصرَة).
مِن كِبَارِ التَّابِعِينَ، وكَانَ مِن أَعلَمِ النَّاسِ بِالقَضَاءِ، ذَا فِطنَةٍ وذَكَاءٍ ومَعرِفَةٍ وعَقْلٍ ورَصَانَةٍ. قَالَ لَهُ عَلِيُّ بْن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنْتَ أَقْضَى العَرَبِ.
أَسْلَمَ شُرَيْحٌ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ولَم يَلقَه، وَانْتَقَلَ مِنَ اليَمَنِ زَمَنَ الصِّدِّيْق. ووَلِيَ القَضَاءَ لِعُمَرَ، وعُثمَانَ، وعَلِىِّ، ومُعَاوِيَةَ، ويَزِيدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، ولِعَبْدِ المَلِكِ، فَأَقَامَ قَاضِياً سِتِّينَ سَنَةً.
وكَانَت فِيهِ دُعَابَـة:
- دَخَل عَلَيْه أَحَدُ النَّاس يَوْماً فَقَال لَه:
أَيْن أَنْتَ أَصْلَحَكَ اللهُ؟
فَقَال: "بَيْنَك وبَيْن الحَائِط !!"
قَال: اِسْتَمِع مِنّي.
قَال: "قُلْ أَسْمَع".
قَالَ: إِنِّي رَجُل مِن أَهْل الشَّام.
قَال: "مَكَان سَحِيق!!"
قَال: تَزَوَّجتُ عِنْدَكُم.
قَال: "بِالرَّفَاءِ والبَنِين!!"
قَال: وأَرَدتُ أَن أُرَحِلّهَا.
قَال: "الرَّجُل أَحمَق بِأَهِلِه!!".
قَال: وشَرَطتُ لَهَا دَارَهَا.
قال: "الشَّرط أَمْلَك".
قَالَ: فَاحْكُم الآنَ بِيْنَنَا،
قَال: "قَد فَعَلتُ".
قَالَ: فَعَلَى مَنْ حَكَمْتَ؟
قَالَ: "عَلَى اِبْن أُمِّكَ!!".
قَال: بِشَهَادَة مَنْ؟
قَالَ: "بِشَهَادَة اِبْنِ أُخْتِ خَالتِك!!"
- واخْتَصَمَتْ أُمٌّ وَجَدَّةٌ إِلَى شُرَيْحٍ، فَقَالَتِ الْجَـدَّةُ:
أَبَا أُمَيَّةَ أَتَيْنَاكَ ... وَأَنْتَ الْمَرْءُ نَأْتِيهْ
أَتَاكَ ابْنِي وَأُمَّاهُ ... وَكِلْتَانَا نُفَدِّيهْ
تَزَوَّجْتِ فَهَاتِيهِ ... وَلَا يَذْهَبْ بِكِ التِّيهْ
فَلَوْ كُنْتِ تَأَيَّمَتِ... لَمَا نَازَعْتِنِي فِيهْ
أَلَا يَا أَيُّهَا الْقَاضِي...هَذِي قِصَّتِي فِيهْ
فَقَالَتِ الْأُمُّ:
أَلَا يَا أَيُّهَا الْقَاضِي ... قَدْ قَالَتْ لَكَ الْجَدَّهْ
وَقَوْلًا فَاسْتَمِعْ مِنِّي ... وَلَا تُبْطِرْنِي رَدَّهْ
أُعَزِّي النَّفْسَ عَنْ إِبْنِي ... وَكِبْدِي حَمَلَتْ كَبِدَهْ
فَلَمَّا كَانَ فِي حِجْرِي ... يَتِيمًا ضَائِعًا وَحْدَهْ
تَزَوَّجْتُ رَجَاءَ الْخَيْرِ ... مَنْ يَكْفِينِي فَقْدَهْ
وَمَنْ يُظْهِرُ لِي وُدَّهْ ... وَمَنْ يَكْفُلُ لِي رِفْدَهْ
فَقَالَ شُـرَيْــح:
قَدْ فَهِمَ الْقَاضِي مَا قَدْ قُلْتُمَا ... وَقَضَى بَيْنَكُمَا ثُمَّ فَصَلْ
بِقَضَاءٍ بَيِّنٍ بَيْنَكُمَا ... وَعَلَى الْقَاضِيَ جَهْدٌ أَنْ عَقَلْ
قَالَ لِلْجَدَّةِ: بِينِي بِالصَّبِيِّ ... وَخُذِي إِبْنَكِ مِنْ ذَاتِ الْعِلَلْ
إِنَّهَا لَوْ صَبَرَتْ كَانَ لَهَا قَبْلَ ... دَعْوَاهَا تَبْغِيهَا الْبَدَلْ
- قَالَ عْنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ سِيْرِيْنَ: أَدْرَكْتُ الكُوْفَةَ، وبِهَا أَرْبَعَةٌ مِمَّنْ يُعَدُّ بِالفِقْهِ، فَمَنْ بَدَأَ بِالحَارِثِ، ثَنَّى بِعَبِيْدَةَ، ومَنْ بَدَأَ بِعَبِيْدَةَ، ثَنَّى بِالحَارِثِ، ثُمَّ عَلْقَمَةَ، ثُمَّ شُرَيْحٍ؛ وإِنَّ أَرْبَعَةً أَخَسُّهُم شُرَيْحٌ لَخِيَارٌ.
- وقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ شُرَيْحٌ أَعْلَمَهُم بِالقَضَاءِ، وكَانَ عَبِيْدَةُ يُوَازِيْهِ فِي عِلْمِ القَضَاءِ.
- وقَالَ مَكْحُوْلٌ: اخْتَلَفْتُ إِلَى شُرَيْحٍ أَشْهُراً لَمْ أَسْأَلْهُ عَنْ شَيْءٍ، أَكْتَفِي بِمَا أَسْمَعُهُ يَقْضِي بِهِ.
- وقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وابْنُ سَعدٍ، والعِجْلِيُّ، وابْنُ حِبَّان، وابْنُ حَجَرٍ: ثِقَةٌ.
- وقَالَ الذَّهَبِيُّ: فَقِيهٌ.
ومِـــن أَقـوَالِـــــهِ:
- قَالَ شُرَيْحٌ: مَا شَدَدْتُ لَهَوَاتِي عَلَى خَصْمٍ، وَلاَ لَقَّنْتُ خَصْماً حُجَّةً قَطُّ.
- وقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ؛ فَوَاللهِ، لا تَجِدُ فَقْدَ شَيْءٍ تَرَكْتَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ.
- وقَالَ: اتَّبِع ولاَ تَبْتَدِع، فَإِنَّكَ لَنْ تَضِلَّ مَا أَخَذْتَ بَالأَثَرِ.
- وقَالَ: سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا حَقَّ مَنْ نَقَصُوا، إِنَّ الظَّالِمَ يَنْتَظِرُ الْعِقَابَ، وإِنَّ الْمَظْلُومَ يَنْتَظِرُ النَّصْرَ.
- وَقَالَ: إِنِّي لأُصَابُ بِالمُصِيْبَةِ، فَأَحْمَدُ اللهَ عَلَيْهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، أَحْمَدُ إِذْ لَمْ يَكُنْ أَعْظَمَ مِنْهَا، وأَحْمَدُ إِذْ رَزَقَنِي الصَّبْرَ عَلَيْهَا، وأَحْمُدُ إِذْ وَفَّقَنِي لِلاسْتِرْجَاعِ لِمَا أَرْجُو مِنَ الثَّوَابِ، وأَحْمَدُ إِذْ لَمْ يَجْعَلْهَا فِي دِيْنِي.
وَفَـاتُــــهُ: تُوُفِّيَ شُرَيْح سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِيْنَ (78 هـ) بِالكُوفَة، وكَانَ قَد أَوْصَى أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ بِالْجَبَّانَةِ، وأَنْ لا يُؤَذِّنَ بِهِ أَحَدٌ، ولا تَتَبِعَهُ صَائِحَةٌ، وأَنْ لا يُجْعَلَ عَلَى قَبْرِهِ ثَوْبٌ، وأَنْ يُسْرَعَ بِهِ السَّيْرُ، وأَنْ يُلْحَدَ لَهُ؛ وعَاشَ مَائَة وَعَشْر سِنِيْن (110)، رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.