يمثل الكتاب طورا من أطوار العلم حيث يكشف عن الحالة العلمية في حقبة زمنية معينة, من خلاله تعرف صورتها ومدى نضجها, وضعفها وقوتها, ومن جانب آخر قد يكشف عن أحوالها الاجتماعية والسياسية وغير ذلك من الجوانب, والمعلوم أن العلم عندما ينشأ إنما ينشأ بصورة سهلة خالية عن التعقيد, تنحى نحو الاختصار وشيء من الإجمال مع تواضع المقصد, ومثال ذلك الصحيفة الصادقة التي كتبها عبدالله بن عمرو–رضي الله عنهما- حيث جمع فيها بعض الأحاديث التي سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم, وفي المقابل كانت الغاية من جمع الأحاديث في عهد عمر بن عبد العزيز–رحمه الله- وهي التي قام بها الإمام الزهري –رحمه الله- هو حفظ السنة وصونها, فهو إذن مقصد عام, وبين المقصدين يظهر لنا بعد جديد يتمثل بتطور العلم وعلاقته بالكتاب, فهو كما تقدم كاشف عن هذه المسألة المهمة.
راعى أئمة الإسلام جملة من القيم في مصنفاتهم مثلت دافعا لهم في الخوض فيها, من ذلك الإخلاص لله سبحانه, وهذا من أثر الإسلام في نفوس أتباعه, فالكتابة والتأليف عمل من الأعمال التي تتنزه ابتداء عن العبث واللهو كما تحتاج إلى نية صحيحة, ومن القيم كذلك الحاجة إلى التأليف, فهو لديهم واجب وقتٍ وحاجة واقعية قد لا تندفع إلا به, ومن القيم تلبية طلب قد طلب منه ممن يحتاجه ويعتني به, وهذا أمر شريف جليل, يرفع الهمة ويزيد الحرص ويصرف اليأس, فروح العلم العمل به والسعي إليه, وفي يأس أهل العلم وانصراف الناس عنهم قصص يذبل لها القلب وتدمع العين, فلا تسألني عن ذلك الشعور الذي يشبه الموت إذا عرض ذكره أو حضر وقته, وقد يفقد الـتأليف منهجه وتضيع بركته وشريف مقصده إذا دخله التوجيه غير المنضبط أو المال, والله المستعان.
كل كتاب مبني على منهج وطريقة توصل إلى غاية يريدها المؤلف, فالأصل أن بين منهج الكتاب والغاية من التأليف, علاقة لا تنفك, ومراعاتها يعين على فهم الكتاب وحسن التعامل معه, ومن هنا يتبين لنا خطأ تغير بنية كتاب من كتب أهل العلم حيث يذهب بغايته ومقصده, وهذا المقصد هو الذي يحدد طريقة المؤلف وشرطه ومحتويات الكتاب كما سيأتي, كما أن المقاصد في التأليف بما لها من أثر تتنوع بتنوع الحاجات, وفيما يلي سأعرض لبعض الأمثلة من كتب أهل الحديث, من ذلك مقصد الإمام البخاري –رحمه الله- في جامعه الصحيح حيث بين مراده من تأليف كتابه من ذلك قوله كما في السير (8\209) :" كنت عند إسحاق بن راهويه, فقال بعض أصحابنا : لو جمعتم كتابا مختصرا لسنن النبي صلى الله عليه وسلم, فوقع ذلك في قلبي, فأخذت في جمع هذا الكتاب ", وقال :" صنفت الصحيح في ست عشرة سنة, وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى "(8\211), فتبين من هذا أن مقصد الإمام هو جمع الأحاديث الصحيحة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم, وقد كان لهذا المقصد أثر في طريقة تعامل أهل العلم مع الكتاب, وبنيت عليه جملة من الأحكام, كتلقيه بالقبول والركون إلى أحكامه والعمل به وتقديمه على غيره من كتب السنن, والأصل أن طريقة الإمام في صحيحه منسجمة مع مقصده, لا تخرج عنه وإنما تحتاج إلى كشف وبيان, كما أن الأصل في أحاديث كتابه الصحة, حيث يمثل ذلك المقصد الأول للكتاب, ويؤخذ بعين الاعتبار صورة التأليف وطريقته, وهي سير الإمام على طريقة الجوامع وهذا تطلب منه قدرا من الاختيار والانتقاء بما يكون له أثر على مراتب الأحاديث.
ومن المقاصد لدى أهل الحديث ما جرى عليه أصحاب السنن, ومنهم الإمام الترمذي في جامعه, حيث قال :" جميع ما في هذا الكتاب من الحديث معمول به, وقد أخذ به بعض أهل العلم, ما خلا حديثين "( شرح العلل 1\323), وهذا المقصد من أكثر المقاصد ظهورا لدى أصحاب السنن, حيث يمثل العمل بالحديث الشرط الأهم في تصنيفه, وهذا بطبيعة الحال ينعكس على مراتب الأحاديث, ومن تأمل الأحاديث في كتب السنن رأى مقدار التفاوت بينها, والعقد الناظم لهذا التفاوت هو العمل بها, وهذا يمثل حاجة واقعية متعلقة بالتفقه, يقول الحافظ ابن حجر –رحمه الله- :" أصل وضع التصنيف للحديث على الأبواب : أن يقتصر فيه على ما يصلح للاحتجاج أو الاستشهاد, بخلاف ما رتب على المسانيد, فإن أصل وضعه مطلق الجمع "( تعجيل المنفعة 1\236)وهذا نص جليل من إمام كبير, فهو يلقي الضوء على الترتيب المنهجي لكتب السنن وأنها رتبت ترتيبا وفق رؤية لهؤلاء الأئمة عمادها العمل بالحديث, وهذا اقتضى مراعاة مراتب الأحاديث داخل الباب الواحد مع إظهار الركيزة الأساسية وهي الحكم على الأحاديث بما يعين على معرفة مراتب المسائل في العمل والخلاف, ومن باب أولى انعكاس هذا الترتيب على أنواع الأحاديث في الباب الواحد والأبواب المتفرقة, كما أشار الحافظ إلى منهج كتب المسانيد وأنها لمطلق الجمع, فهذا النوع من التأليف ظهر في وقت مبكر قياسا بالمصنفات على الأبواب, والغرض منه الجمع بصورة معينة وهي اعتبار مرويات الصحابة والترتيب على أسمائهم في الغالب, ومع أن الحافظ أشار هنا إلى أن المراد منها مطلق الجمع ومع هذا هناك مراعاة لبعض المناسبات فيها يظهر في صورة الاختيار من أحاديث الصحابي الواحد, وكما قدمت هذا الطور وجد مبكرا وهو مؤسس لما تلاه من التصنيف على الأبواب, وقد يستثنى من هذا الإطلاق مسند الإمام أحمد –رحمه الله- فهو مسند عالي الرتبة, جيد الاختيار للأحاديث, وقد نص على ذلك الإمام فيما نقل عنه كما في الخصائص وغيره, ومما يستثنى أيضا المسانيد المعللة كمسند يعقوب بن شيبة ومسند البزار وما جرى مجراها, فهي مسانيد لها أغراض خاصة تتعلق ببيان غرائب الأحاديث ومنكرات الروايات, والوقوف على هذه المقاصد أمر مهم يعين على التعامل مع أنواع الأحاديث فيها, وبالعودة إلى الإمام الترمذي –رحمه الله- فقد ظهر جليا في كتابه مراعاة تلك العناية من خلال ترتيب الأحاديث والحكم عليها حكما تفصيليا, مع تذيل كل حديث بذكر مذاهب الفقهاء ومن عمل بالحديث المذكور, كما عمل على رفد البعد الفقهي بنوع من الحديث هو الحديث الحسن الذي يعتمد على تعدد الروايات التي تعزز قيمة المتن وتعين على العمل به, ومن أمثلة مقاصد التأليف أيضا ما نهجه الإمام الدارقطني –رحمه الله- في سننه, حيث عمد إلى جمع الأحاديث التي عمل بها الفقهاء وقد غلب عليه الصنعة النقدية, وهو مراد له هنا, فجمعَ الأحاديث الغرائب والمنكرة والمعلولة, ورتبها على طريقة كتب السنن, بحيث يكون الكتاب مرجعا في بابه, يقول ابن تيمية -رحمه الله- :" وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أنه ليس في الجهر في البسملة حديث صريح ولم يرو أهل السنن المشهورة, كأبي داود والترمذي والنسائي شيئا من ذلك, وإنما يوجد الجهر بها صريحا في أحاديث موضوعة, يرويها الثعلبي والماوردي وأمثالهما في التفسير, أو في بعض كتب الفقهاء الذين لا يميزون بين الموضوع وغيره...أو يرويها من جمع هذا الباب كالدراقطني والخطيب وغيرهما, فإنهم جمعوا ما روي, وإذا سئلوا عن صحتها قالوا بموجب علمهم "( الفتاوى 22\416 ), وقال :" والدراقطني صنف سننه ليذكر فيها غرائب السنن, وهو الغالب بين ما رواه, وهو من أعلم الناس بذلك "( الرد على البكري ص20 ), ونحو هذه العبارات قد قالها جمع من أهل العلم, وقد جمعها الشيخ عبد الفتاح أبو غدة –رحمه الله- في رسالته الماتعة " السنة النبوية وبيان مدلولها الشرعي ", وفي كلام ابن تيمية –رحمه الله- فوائد جليلة, منها ما يتعلق بالقيمة الاعتبارية لكتب السنن, وجمعها للمشهور من الأحاديث, وقد صح فيها ما ذكره بعض أهل الحديث من جمعها أصول السنة النبوية وأصح ما روي منها حتى أطلق عليها الصحة جملة من هذا الباب, ولذلك كان الخروج عن هذه الدواوين المشهورة محل نظر ويحتاج مزيد بحث, ومن ذلك إشارته للكتب التي شكلت الغرائب والمنكرات جلّ أحاديثها, ككتاب الدارقطني والخطيب البغدادي, فينبغي أن يكون التعامل على وفق طبيعتها, وأما التوسع في الاعتماد على أحاديث هذه الكتب فهو غير حسن, وليس هذا المراد منها عند أصحابها أصالة, ويلتحق بهذا الباب ما كان في معناه من المصنفات.
وفي الختام؛ فإني أحب أن أنبه على أن ما تقدم من المقاصد لدى أهل الحديث, هي مقاصد معتبرة عندهم, فينزَّل كل واحد منها منزلته, فهي في جملتها مرادة لهم, وكل كتاب بخصوصه يمثل جزءً من عمليتهم الحديثية, وعليه فاعتبار مقصد واحد وجعله معيارا للعملية الحديثية عند أهل الحديث وإهمال غيره من المقاصد, ثم بناء عملية حديثية وفق رؤية خاصة بأحد الأئمة مهما بلغ شأنه,هذا من الأخطاء العلمية حيث يظهر تأثيره في تصور العملية الحديثية, ويقابله إهمال هذه المقاصد أو بعضها والتوسع في ذلك بما يضعف القدرة على الوقوف أيضا على حدود فكر المحدثين وتصورهم للمسألة الحديثية.