تفسير العبادة بالتحاكم .
كذلك مما يدخل في مسمى العبادة ومجالاتها "التحاكم" فإن كان العبد يتحاكم في جميع شؤون حياته الخاصة والعامة إلى شرع الله تعالى فهو عبد لله عز وجل، وإن كان يتحاكم إلى شرع غيره - أنا كان هذا الغير - ولو في جزئية من جزئيات حياته فهو عبد لهذا الغير وداخل في عبادته من أوسع أبواب العبادة. وسر ذلك أن الحكم والتشريع وسن القوانين والقيم والموازين يعتبر من أخص خصوصيات الإلهية، فمن ادعاه لنفسه من دون - أو مع - الله عز وجل فقد ادعى الألهية وزعمها لنفسه اختصاصا وعملا، وجعل من نفسه ندا لله عز وجل في أخص خصوصياته. وبالتالي من أقر له بهذا الحق وتحاكم إليه - من دون أو مع الله - فهو داخل في عبادته من دون الله أقر بذلك أم لم يقر، علم أم جهل.
و لكي تتضح أن عملية "التحاكم" هي عبادة من المتحاكم إلى المتحاكم إليه، لا بد من أن نثبت أولا - بالدليل الشرعي - أن الحكم والتشريع من مقتضيات الألوهية واختصاصها، وهي من أخص خصوصيات الله عز وجل لا يجوز أن يشركه فيها أحد من خلقه، وأن أي مخلوق - أيا كانت صفته ونوعيته - يدعي شيئا من ذلك لنفسه فإنه قد زعم الألوهية وجعل من نفسه إلها للعباد، وندا لله عز وجل أخص خصوصياته.
قال تعالى : إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
نفي بعده إثبات يفيد الحصر والقصر، أي ليس الحكم - وهو التشريع الذي يتضمن القضاء والأمر والنهي - لأحد إلا لله تعالى. ثم أتبع ذلك نفي وإثبات آخر، وهو أمره تعالى بأن لا يُعبد أحد - في أي جزئية أو مجال من مجالات العبادة - إلا إياه سبحانه وتعالى.
و هذا نص في أن الحكم من خصوصيات الله وحده لا يشركه فيه أحد من خلقه، وأيما مخلوق يزعم لنفسه هذا الحق فقد زعم الألوهية وجعل من نفسه ندا لله تعالى، وكذلك من أقر له بهذا الحق فقد تحققت له عبوديته من دون الله تعالى، وأشركه في العبادة مع الله تعالى.
قال البغوي في التفسير : إن الحكم، ما القضاء، والأمر والنهي إلا لله .
و قال سيد قطب رحمه الله : إن الحكم لا يكون إلا لله، فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته، إذ الحاكمية من خصائص الألوهية، من ادعى الحق فيها فقد نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته ، سواء ادعى هذا الحق فرد أو طبقة، أو حزب، أو هيئة، أو أمة، أو الناس جميعا في صورة منظمة عالمية. ومن نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته وادعاها فقد كفر بالله كفرا بواحا، يصبح به كفره من المعلوم من الدين بالضرورة، حتى بحكم هذا النص وحده.
و ادعاء هذا الحق لا يكون بصورة واحدة هي التي تخرج المدعي من دائرة الدين القيم، وتجعله منازعا لله في أولى خصائص ألوهيته - سبحانه - فليس من الضروري أن يقول : ما علمت لكم من إله غيري، أو يقول : أنا ربكم الأعلى، كما قاله فرعون جهرة. ولكنه يدعي هذا الحق وينازع الله فيه بمجرد أن ينحي شريعة الله عن الحاكمية، ويستمد القوانين من مصدر آخر، وبمجرد أن يقرر أن الجهة التي تملك الحاكمية، أي التي تكون هي مصدر السلطات، جهة أخرى غير الله سبحانه، ولو كان هو مجموع الأمة أو مجموع البشرية..
و في قوله : أمر ألا تعبدوا إلا إياه ، قال : حين نفهم معنى العبادة على هذا النحو - وهو الدينونة لله وحده، والخضوع له وحده، واتباع أمره وحده - نفهم لماذا جعل يوسف عليه السلام اختصاص الله بالعبادة تعليلا لاختصاصه بالحكم، فالعبادة - أي الدينونة- لا تقوم إذا كان الحكم لغيره.
و مرة أخرى نجد أن منازعة الله الحكم تخرج المنازع من دين الله - حكما معلوما من الدين بالضرورة - لأنها تخرجه من عبادة الله وحده، وهذا هو الشرك الذي يخرج أصحابه من دين الله قطعا، وكذلك الذين يقرون المنازع على ادعائه، ويدينون له بالطاعة وقلوبهم غير منكرة لاغتصابه سلطان الله وخصائصه، فكلهم سواء في ميزان الله .
ذلك الدين القيم ، وهو تعبير يفيد القصر، فلا دين قيما سوى هذا الدين الذي يتحقق فيه اختصاص الله بالحكم تحقيقا لاختصاصه بالعبادة .
و من الأدلة كذلك قوله تعالى : و لا يُشرك في حكمه أحدا .
قال الطبري في التفسير : ولا يجعل الله في قضائه، وحكمه في خلقه أحدا سواه شريكا، بل هو المنفرد بالحكم والقضاء فيهم، وتدبيرهم وتصريفهم فيما شاء وأحب .
و قال الشنقيطي رحمه الله : المعنى ولا يشرك الله جل وعلا أحدا في حكمه بل الحكم له وحده جل وعلا لا حكم لغيره ألبتة، فالحلال ما أحله تعالى والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، والقضاء ما قضاه، وحكمه جل وعلا المذكور في قوله : و لا يُشرك في حكمه أحدا شامل لكل ما يقضيه جل وعلا، ويدخل في ذلك التشريع دخولا أوليا.
و ما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الحكم لله وحده لا شريك له فيه جاء مبينا في آيات أُخر ، كقوله تعالى : إن الحم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه، وقوله تعالى : إن الحكم إلا لله عليه توكلت، وقوله تعالى : و ما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله، وقوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون، وقوله : أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون، وقوله تعالى : قل أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا، إلى غير ذلك من الآيات .
و من لوازم هذا التسليم - وهو أن الله تعالى متفرد في الحكم والتشريع، وأن الحكم من خصوصياته تعالى لا يُشركه فيه أحد من خلقه - ومقتضياته أن من يدعي من العباد صلاحية الحكم لنفسه من دون الله تعالى - أو معه - فقد ادعى الألوهية والربوبية، وجعل من نفسه ندا وشريكا لله تعالى، ونصب من نفسه إلها معبودا على العباد.
و من الأدلة التي تزيد المسألة وضوحا وتبسيطا، قوله تعالى عن فرعون : و قال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري ، فحشر فنادى، فقال أنا ربكم الأعلى .
فهنا فرعون لم يرد من الألوهية والربوبية التي زعمها لنفسه، أنه الإله الخالق المتصرف بنواميس الكون فهو أعجز وأحقر من أن يخلق بعوضة فأدنى، وعندما واجهه موسى عليه السلام بآية العصا حيث تحولت إلى أفعى تسعى، لم يكن له حول ولا قوة سوى أن استنجد بالسحرة والمشعوذين ليذودوا عنه وعن سلطانه، ولكن أنَّى له ولهم أمام آيات الله الباهرات…
إذاً هو يريد من دعواه الألوهية والربوبية أنه لا حاكم ولا مشرع ولا مطاع ترجع إليه الأمة - في شؤون حياتها - سواه، والرأي له من قبل ومن بعد.
و هذا المراد يظهر بصورة أوضح عندما نادى في قومه وجنده : قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد .
فالرأي والتشريع ما يراه ويشرعه هو لا ما يراه ويشرعه غيره، تلك كانت دعوى الألوهية والربوبية التي زعمها فرعون لنفسه، فمن رضي له ذلك وتابعه عليه، كان داخلا في تأليهه وعبادته من أوسع أبواب ومجالات العبادة.
و بالتالي فإن أي مخلوق - أيا كانت صورته ونوعيته، كان فردا، أم مجلسا، أم حزبا، أم شعبا أم غير ذلك - وفي أي زمان كان، يدعي لنفسه صلاحية الحم والتشريع، وأنه مصدر التشريع، وأن على العباد طاعته واتباعه في ذلك، فقد ادعى الألوهية والربوبية التي ادعاها فرعون لنفسه، وإن لم يقل كما قال فرعون : ما علمت لكم من إله غيري..أنا ربكم الأعلى.
و هذا المعنى نجده في آيات أخر، كقوله تعالى : قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون . وكذلك قوله تعالى : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله .
و قد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الربوبية التي ادعوها لأنفسهم أنهم قد شرعوا فأحلوا وحرموا للناس من غير سلطان من الله تعالى. كما فسر عبادة الناس لهم بطاعتهم واتباعهم على ذلك.
و كذلك قوله تعالى : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا .
قال الشوكاني : فيه تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من نحال هؤلاء الذين ادعوا لأنفسهم أنهم قد جمعوا بين الإيمان بما أنزل على رسول الله، وهو القرآن، وما أنزل على من قبله من الأنبياء فجاؤوا بما ينقض عليهم هذه الدعوى ويبطلها من أصلها ويوضح أنهم ليسوا على شيء من ذلك أصلا، وهو إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت ، وقد أمروا فيما أنزل على رسول الله وعلى من قبله أن يكفروا به .
و قال محمد بن إبراهيم آل الشيخ : فإن قوله عز وجل يزعمون تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان، فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلا، بل الإيمان ينافي الآخر .
قال ابن القيم رحمه الله : أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسما مؤكدا بالنفي قبله عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع وأحكام الشرع وأحكام المعاد وسائر الصفات وغيرها، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الإنشراح وتنفسح له كل الانفساح وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضا حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضى والتسليم وعد المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض .
قلت : إذا كان الإيمان لا يثبت لصاحبه إلا بالتحاكم إلى شرع الله عز وجل، فإن ذلك يدل على أمرين : أولهما أن التحاكم إلى شرع الله تعالى عبادة له سبحانه، لأنه شرط للإيمان، ولا يكون شيء شرطا للإيمان إلا إذا كان يتضمن نوع عبادة لله عز وجل. أما المر الثاني، فهو أن عدم التحاكم إلى شرع الله عز وجل.. ينفي الإيمان عن صاحبه، وقد تقدم أن الإيمان لا ينتفي عن صاحبه إلا للشرك الذي يتضمن عبادة المخلوق، ولو في وجه من الأوجه.
فدل أن "التحاكم" عبادة من المتحاكم إلى المتحاكم إليه، فمن يتحاكم - في جميع شؤون حياته الخاصة والعامة - إلى الله وحده فهو عبد لله تعالى، ومن يتحاكم إلى غيره - أيا كان هذا الغير ولو في جزئية من جزئيات حياته - فهو عبد لهذا الغير..
قال القرضاوي في كتابه "العبادة" : فمن ادعى من الخلق أن له أن يشرع ما شاء، أمرا ونهيا، وتحليلا وتحريما، بدون إذن من الله، فقد تجاوز حده وعدا طوره، وجعل نفسه ربا أو إلها من حيث يدري أو لا يدري.
و من أقر له بهذا الحق، وانقاد لتشريعه ونظامه، وخضع لمذهبه وقانونه، وأحل حلاله وحرم حرامه، فقد اتخذه ربا، وعبده مع الله أو من دون الله، ودخل في زمرة المشركين من حيث يشعر أو لا يشعر .
و قال الشنقيطي : ويفهم من هذه الآيات كقوله : و لا يشرك في حكمه أحدان أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله، وهذا المفهوم جاء مبينا في آيات أخر…
و من أصرح الأدلة في هذا : أن الله جل وعلا في سورة النساء بين أن من يريد أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله يتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون، وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب، وذلك في قول تعالى : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به.
و بهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته ، وأعماه عن نور الوحي مثلهم .
و بعد، فمن يتأمل حال الأمة من هذه القضية الهامة، يدرك أن هذا الدين قد عاد غريبا كما بدأ وأشد ، حيث إن الحاكم والمشرع - في أكثر الأمصار والديار - هو الطاغوت، وأن الشريعة المتبعة هي شريعة الطاغوت، والناس يتحاكمون إليها طواعية ومن دون أن يجدوا في أنفسهم حرجا من ذلك، فدخلوا في زمرة المشركين الذين يعبدون الطاغوت من حيث يشعرون أو لا يشعرون، ولربما تجد منهم - ومع ذلك - من يصلي ويصوم، ويزعم أنه من المسلمين…!!
المرجع : كتاب الطاغوت . (22-32)
الشيخ : عبدالمنعم مصطفى حليمة .