تَنْقَسِمُ الْمَصَالِحُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَصَالِحُ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا؛ وَهِيَ مَا شَهِدَ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِهَا ، سَوَاءٌ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ؛ كَمَصْلَحَةِ إِعْطَاءِ الذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فِي الْمِيرَاثِ، أَوْ مَصْلَحَةِ الزَّوَاجِ بَيْنَ الرَّجُلِ والْمَرْأَةِ, أَوْ مَصْلَحَةِ الْإِجَارَةِ, أَوْ مَصْلَحَةِ تَعْيينِ إِمَامٍ لِلْمُسْلِمينَ.
فَهَذِهِ مَصَالِــحُ لَيْسَتْ مُـرْسَلَــةً؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ نَصَّ عَلَيْهَا.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَصَالِحُ مُلْغَاةٌ شَرْعًا؛ وَهِيَ مَا شَهِدَ الشَّرْعُ بِإِلْغَائِهَا؛ كَالرِّبَا, والرِّشْوَةِ, وَالْخَمْرِ, وَالْمَيْسِرِ؛ فَبَعْضُ النَّاسِ يَتَعَامَلُ بِالرِّبَا, وَيَقُولُ بِأَنَّ الرِّبَا يَدِرُّ عَلَيْهِ فَوَائِدَ وَمَصَالِحَ كَثِيرَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْسِرُ فِيهِ, بِعَكْسِ التِّجَارَةِ الَّتِي قَدْ تَرْبَحُ وَقَدْ تَخْسِرُ.
وَبَعْضُ النَّاسِ يُعْطِي الرِّشْوَةَ، وَيَقُولُ بِأَنَّهَا تُسَيِّرُ لِي مَصَالِحَ كَثِيرَةً.
وَبَعْضُ النَّاسِ يَشْرَبُ الْخَمْرَ, وَيَقُولُ بِأَنَّهَا تَتَسَبَبُ فِي إِنْعَاشِهِ وَسَعَادَتِهِ.
وَبَعْضُ النَّاسِ يَلْعَبُ الْمَيْسِرَ, وَيَقُولُ بِأَنَّ فِيهِ مَصَالِحَ, حَيْثُ يَدِرُّ عَلَيْهِ أَرْبَاحًا كَثِيرةً.
فَكُلُّ هَذِهِ الْمَصَالِحُ لَيْسَتْ مُعْتَبَرَةً؛ لِأَنَّهَا مُلْغَاةٌ شَرْعًا؛ ثُمَّ إِنَّهَا وَإِنْ بَدَتْ مَصَالِحُ, إِلَّا أَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ مَصَالِحَ, وَإِنَّمَا هِيَ مَفَاسِدُ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا سَكَتَ عَنْهُ الشَّرْعُ, فَلَمْ يَرِدْ فِيهِ دَلِيلٌ خَاصٌّ بِاعْتِبَارِهِ أَوْ إِلْغَائِهِ، فَهَذِهِ هِيَ الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ؛ أَيِ: الْمُطْلَقَةُ عَنِ الْإِلْغَاءِ وَالِاعْتِبَارِ ؛ فَسُمِّيَتْ مُرْسَلَةً؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَطْلَقَهَا فَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِاعْتِبَارٍ وَلَا إِلْغَاءٍ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ لِتَحْقِيقِ مَصَالِحِ النَّاسِ، سَواءٌ كَانَتْ ضَرُورِيَّةً يَحْصُلُ بِتَفْوِيتِهَا ضَرَرٌ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي بَدَنِهِ أَوْ عَقْلِهِ أَوْ مَالِهِ، أَوْ عِرْضِهِ، أَوْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ حَاجِيَّةً يَحْصُلُ بِتَفْوِيتِهَا الضَّيْقُ وَالْمَشَقَّةُ وَالْحَرَجُ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ضَرَرٌ، أَوْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ تَحْسِينِيَّةً فَقَطْ، يَحْصُلُ بِتَفُوِيتِهَا تَرْكُ التَّرَفُّهِ والسِّعَةِ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: إِذَا نَزَلَتْ بِالنَّاسِ نَازِلَةٌ مَا, أَوِ احْتَاجَ النَّاسُ إِلَى فِعْلِ أَمْرٍ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ, وَهَذَا الْأَمْرُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ دَلِيلٌ خَاصٌّ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ، فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ أَوْ إِمَامَ الْمُسْلِمِينَ يَنْظُرُ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ فَيَأْمُرُ بِهِ، وَمَا فِيهِ مَفْسَدَةٌ فَيَنْهَى عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى دَلِيلٍ مُعَيَّنٍ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَالْوَسَائِلُ لَهَا أَحْكَامُ الْمَقَاصِدُ.
مِثَالُ ذَلِكَ:
- جَمْعُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ﭬ لِلْقُرْآنِ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ؛ لِمَصْلَحَةِ حِفْظِ الدِّينِ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ مُعَيَّنٌ.
- إِنْشَاءُ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ؛ كَعِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ, وَعِلْمِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ, وَالْعُلُومِ اللُّغَوِيَّةِ؛ كَعِلْمِ النَّحْوِ, وَعِلْمِ الصَّرْفِ, وَعِلْمِ الْبَلَاغَةِ, أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ الْخَادِمَةِ لِلشَّرِيعَةِ.
- رَصْفُ الطُّرُقِ وَتَعْبِيدِهَا، لِتَسْييرِ مَصَالِحِ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ مُعَيَّنٌ.
- قَوَاعِدُ وَقَوَانِينُ الْمُرُورِ الَّتِي تَضَعُهَا الْحُكُومَاتُ لِمَصْلَحَةِ تَنْظِيمِ حَيَاةِ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ مُعَيَّنٌ.
وَمِنْ شُرُوطِ الْعَمَلِ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ أَلَّا تُخَالِفَ نَصًّا؛ فَإِنْ خَالَفَتْ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا صَحِيحًا، فَلَا يُشْرَعُ الْعَمَلُ بِهَا؛ وَلِأَنَّهَا تَكُونُ – حِينَهَا – مَصْلَحَةً مُلْغَاةً شَرْعًا، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَيُشْتَرَطُ لِلْعَمَلِ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ شُرُوطٌ أخرى:
الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ مُتَعَلِّقَةً بِالضَّرُورِيَّ اتِ الْخَمْسِ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ عَامَّةً كُلِّيَّةً؛ لِتَعُمَّ الْفَائِدَةُ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ؛ لَا مَصْلَحَةٌ خَاصَّةٌ لِأَشْخَاصٍ عَلَى حِسَابِ آخَرِينَ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حُصُولُ الْمَصْلَحَةِ بِالْحُكْمِ مَقْطُوعًا بِهِ أَوْ غَالِبًا عَلَى الظَنِّ؛ فَإِنْ كَانَ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ مَوْهُومًا فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا تَتَسَبَّبَ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ فِي مَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ مِنْهَا أَوْ مُسَاوِيَةٍ لَهَا؛ لِأَنَّ دَرْءَ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ.
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْحُكْمُ بِالْمَصْلَحَةِ فِي الْعِبَادَاتِ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ تَوْقِيفِيَّةٌ([1]).
[1])) انظر هذه الشروط: «الاعتصام» (2/ 628), و«المهذب في أصول الفقه» (3/ 1009, 1010).