العلاقة المتبادلة بين الظاهر والباطن، وأثر كل منهما على الآخر.
قد تضافرت أدلة الكتاب والسنة الدالة على علاقة الظاهر بالباطن، وعلى أثر كل منهما على الآخر سلباً وإيجاباً؛ فإذا صلح القلب صلحت الجوارح واستقامت على قدر صلاحه، وكذلك الجوارح إذا صلحت صلح القلب واستقام على قدر صلاحها.
وكذلك في حال الفساد والمرض؛ فإذا فسد القلب وانتابه المرض فسدت الجوارح ومرضت على قدر فساد ومرض القلب، وإذا فسدت الجوارح ومرضت تأثر القلب بها وفسد على قدر فسادها ولا بد.
قال تعالى: ألم ترَ كيف ضرب الله مثلاً كلمةً طيبةً كشجرةٍ طيبة أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء تؤتي أُكلها كلَّ حينٍ بإذن ربها ويضرب الله الأمثالَ للناس لعلهم يتذكرون إبراهيم:24.
هذا مثل لكلمة التوحيد والإيمان ضربه الله تعالى للناس لعلهم يتذكرون؛ فكما أن الإيمان له ظاهر وباطن؛ ظاهر على الجوارح وباطن في القلب كذلك هذه الشجرة الطيبة لها ظاهر متمثل في جذوعها وغصونها الوافرة الممتدة في السماء، ولها باطن يتمثل في الجذور الممتدة والضاربة في أعماق الأرض.
وكما أن الإيمان الباطن يتأثر ويؤثر بالإيمان الظاهر سلباً وإيجاباً، كذلك هذه الشجرة الطيبة فإن ظاهرها يتأثر ويتقوى بما تمده به الجذور من غذاء تمتصه من أعماق التربة لترسله غذاءً خالصاً إلى جذوعها وغصونها وأوراقها .. وكذلك الجذور تتأثر بما تفرزه لها الجذوع والغصون، والأوراق من غذاء وحياة، فتأمل لو حجبت الشمس، وكذلك الهواء والأكسجين عن شجرة كيف سيكون مصير هذه الشجرة إلى الذبول والضعف والموات .. وهكذا الإيمان في القلب وعلاقته بجوارح الجسد التي هي له بمثابة الجذوع، والغصون، والأوراق .. إذا حجبت عن غذاء العبادة والانقياد لأوامر الشريعة فإنه سيؤدي حتماً إلى ضعف وموت الإيمان الظاهر والباطن معاً.
وعليه وعلى أصحابه يُحمل قوله تعالى: إنك لا تُسمع الموتى ولا تُسمع الصم الدعاء النمل:80.
وفي الحديث، فقد تقدم معنا قوله -صلى الله عليه و سلم -:" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ".
ومما يدل على أثر الظاهر على الباطن، وتأثر الباطن بكل خطيئة أو ذنب يُرتكب على الجوارح الظاهرة، قوله -صلى الله عليه و سلم -:" إن العبد إذا أخطأ خطيئة ـ وفي رواية: إذا أذنب ذنباً ـ نُكتت في قلبه نُكتة سوداء، فإذا نزعَ واستغفر وتاب سُقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون (1).
وقال -صلى الله عليه و سلم -:" تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نُكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نُكتت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير على قلبين: أبيض بمثل الصفا فلا تضره فتنةٌ ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسودٌ مِرباداً ـ أي صار كلون الرماد من الربدة ـ كالكوز مجخياً ـ أي مائلاً منكوساً ـ لا يعرف معروفاً، ولا يُنكر منكراً إلا ما أُشرِب من هواه "مسلم.
تأمل كيف يتأثر القلب ضعفاً بكل ذنب يُرتكب على الجوارح، حتى إذا تراكمت عليه الذنوب والنكت السوداء أوصلته إلى موصل من الضعف والشلل لا يُحسن معها التمييز بين الحق والباطل، وبين الجميل والقبيح، وبين الخير والشر .. إلا ما يراه من جهة هواه، وتميل إليه نفسه الأمارة بالسوء!
وقال -صلى الله عليه و سلم -:" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين
يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يقتل وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد " متفق عليه.
وإن كنا نعتقد أن هذه الذنوب مجردة لا تنفي عن صاحبها مطلق الإيمان ــــــــــــــــــ
(1) صحيح سنن الترمذي:2654.
.. إلا أن الحديث يدل على الأثر العميق والبالغ التي تحدثه هذه الذنوب الظاهرة في الإيمان الذي وقر في القلب ..!
أخرج البخاري عن عكرمة قال: قلت لابن عباس كيف يُنزع الإيمان منه ؟ قال: هكذا ـ وشبك بين أصابعه ثم أخرجها ـ فإن تاب عاد إليه هكذا، وشبك بين أصابعه.
وقال - رضي الله عنه -: ينزع منه نور الإيمان في الزنا، فإن زال رجع إليه الإيمان.
ـ مما يُستفاد من هذه المقدمة: أن الظاهر لا يمكن أن يسير أو يتحرك بمفرده بمعزل عن الباطن، وكذلك الباطن لا يمكن أن يتحرك أو يسير بمعزل عن الظاهر ومن دون أن يؤثر به ويتأثر منه.
وهذا فيه رد على مرجئة العصر الذين يفترضون إمكانية أن يكون الظاهر شيئاً يسير في اتجاه، والباطن شيئاً آخر، له وصف آخر .. ويسير في اتجاه آخر !!
الظاهر يكون كافراً مستحلاً للكفر .. وبنفس الوقت يكون الباطن مؤمناً مستقراً بالإيمان ؟!!
يقول الشيخ ناصر في كتابه التحذير من فتنة التكفير: وخلاصة الكلام: لا بد من معرفة أن الكفر ـ كالفسق والظلم ـ ينقسم إلى قسمين: كفر وفسق وظلم يُخرج من الملة، وكل ذلك يعود إلى الاستحلال القلبي. وآخر لا يخرج من الملة؛ يعود إلى الاستحلال العملي!!
وبعد أن ذكر حديث أسامة وقوله -صلى الله عليه و سلم -:" هلاّ شققت عن قلبه " قال: إذاً الكفر الاعتقادي ليس له علاقة أساسية بمجرد العمل، وإنما علاقته الكبرى بالقلب ا- هـ.
ويقول في شريط الكفر كفران: الكفر عمل قلبي وليس عملاً بدنياً .. الكفر الاعتقادي يختلف عن الكفر العملي من حيث أنه كفر قلبي، أما الكفر العملي ليس كفراً قلبياً وإنما هو كفر عملي .. لا يوجد عندنا في الشريعة أبداً نص يصرح ويدل دلالة واضحة على أن من آمن بما أنزل الله لكنه لم يفعل بشيء مما أنزل الله، فهذا هو كافر .. والتفريق بين كفر وكفر هو أن ننظر إلى القلب؛ فإن كان القلب مؤمناً والعمل كافراً، فهنا يتغلب الحكم المستقر في القلب على الحكم المستقر في العمل ..ا- هـ.
وغير ذلك من الإطلاقات الخاطئة التي هي في حقيقتها تأصيل لعقيدة جهم في الإيمان .. سواء كان الشيخ يعلم بذلك أم أنه لا يعلم .. وقد رددنا على كلامه الآنف الذكر بشيء من التفصيل في كتابنا " الانتصار لأهل التوحيد .." فليراجعه من شاء.
وسبب خطأ الشيخ ـ ومن تابعه من مرجئة العصر ـ أنه لم ينتبه للعلاقة المتبادلة بين الظاهر والباطن، وأن من لوازم كفر الظاهر كفر الباطن، ومن لوازم إيمان الظاهر وانقياده لأحكام الشريعة بصدق .. إيمان الباطن وانقياده، فكل منهما يؤثر ويتأثر بالآخر كما تقدم تقريره وبيانه في شرح هذه المقدمة الهامة ..!
كيف يمكن أن نتصور قلباً مؤمناً صالحاً وفي نفس الوقت عملاً كافراً طالحاً على الجوارح الظاهرة كما يقول الشيخ .. والنبي -صلى الله عليه و سلم - يقول:" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله .." ؟!!
قال ابن تيمية رحمه الله: فإذا كان فيه ـ أي القلب ـ معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب ..
فإذا كان القلب صالحاً بما فيه من الإيمان علماً وعملاً قلبياً، لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق، كما قال أئمة أهل الحديث: قول وعمل، قول باطن وظاهر، وعمل باطن وظاهر، والظاهر تابع للباطن لازم له متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد .. وإذا قام بالقلب التصديق به والمحبة له لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة، والأعمال الظاهرة، فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما في القلب ولازمه، ودليله ومعلوله، كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له أيضاً تأثير فيما في القلب، فكل منهما يؤثر في الآخر .. ا- هـ